في ربيع العام 1918، كانت شريحة كبيرة من البشر تعاني ويلات ما عرف تاريخيا بالحرب العالمية الأولى، تلك الحرب الأكثر دموية في تاريخ البشرية آنذاك، حيث تكبدت الإنسانية ما يقارب الـ17 مليون قتيل ما بين الدول المتنازعة.
قرب انتهاء الحرب، وأثناء محاولات لملمة الشتات، ظهرت على الساحة إحدى أعتى سلالات الإنفلونزا فتكًا بالإنسان، وهي الإنفلونزا الإسبانية، التي أزهقت وحدها حوالي ثلاثة أضعاف الأرواح التي أزهقت بالحرب الدامية.
تشير التقديرات إلى أن قبضة فيروس الإنفلونزا الإسبانية قد اتسعت لتحكم سيطرتها على العالم بأسره، بدايةً من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وصولا إلى المناطق النائية بالمحيط الأطلسي وجرين لاند، حيث أصاب الفيروس القاتل ما يقارب 40% من تعداد سكان العالم، متسببًا في وفاة من 20 إلى 50 مليون شخص، في حين لم تُفرق الجائحة ما بين غني وفقير، رجل وامرأة، مسؤول ومواطن عادي.
لماذا الإسبانية؟
وقتئذ، لم يكن الشُغل الشاغل للحكومات هو معرفة مصدر الجائحة، أو حتى محاولة تحجيمها، نظرًا لانشغالها بالحرب، حيث اعتبرت الإنفلونزا الإسبانية كأي إنفلونزا موسمية عاديةً، حيث تم غض الطرف عن إمكانية تسبُب “حرب الخنادق” في إطلاق سلالة جديدة من الإنفلونزا، نظرًا لأن طبيعة الحرب التي اتسمت ببقاء الجنود داخل خنادقهم لأشهر، قد تكون سببًا لانتقال الأمراض بين صفوف الجيوش المتنازعة، التي كانت لم تصل حينها إلى ما يعرف حاليًا بالـ«صحة العامة» والتطهير، ما يعني بالتبعية إمكانية إصابة الجنود بضعف المناعة، وتعرضهم للإصابة بالأمراض دون رادع حقيقي.
كانت إسبانيا إحدى الدول القلائل التي اتخذت صف الحياد بالحرب العالمية الأولى، حيث آثر الملك «ألفونسو» ألّا يشترك جيشه بهذه الحرب الطاحنة، لذلك، ومع تزايد أعداد المصابين بهذه الجائحة، لم يجد الإعلام والحكومة الإسبانية حرجًا في الاعتراف بإصابة أعداد هائلة من المواطنين الإسبان بهذا الفيروس، الأمر الذي أنكرته سائر البلدان، ما جعل التصاق المرض الجديد بإسبانيا أمرا شبه حتمي، لأنها البلد الوحيد الذي اعترف به.
أين الحقيقة؟
طبقًا للمركز الدولي للتحكُم بالأمراض، لم يتمكن الخبراء والمؤرخون من التوصُّل إلى النقطة التي تسببت فعليًا في انتشار الإنفلونزا الإسبانية، حيث يشير البعض إلى أن أول حالة قد تم تسجيلها تعود إلى كانساس الأمريكية، بإصابة جندي بإحدى القواعد العسكرية في مارس 1918، كما تناثرت التكهُنات حول ما إذا كانت شرارة البداية لهذه الجائحة قد أتت من فرنسا، الأمر الذي حاولت الحكومة الإسبانية تأكيده بوصفها للجائحة بالإنفلونزا الفرنسية.
وفقما يرى جون باري، مؤلف كتاب «The Great Infeluenza»، لم يصل أحد إلى حقيقة المتسبب في ذلك المرض، وربما لن يصل أحدًا، بل ستظل كل النظريات المتاحة اجتهادات لا أكثر ولا أقل.
الحقيقة هي أن سياسة التعتيم الإعلامي التي انتهجتها معظم دول حول هذا المرض هي السبب في هذا الجدل، حيث لعبت دورًا محوريًا في تقليل الاهتمام بهذه الجائحة، رغبةً منها في الحفاظ على الروح المعنوية لشعوبها مرتفعةً، وبالعودة إلى باري مجددًا، فهو يرى أن ذلك التعتيم قد جاء من منطلق منطقي يحمل شيئا من الوجاهة، حتى وإن اختلفنا معه، وهو أن مُعظم الحكومات التي كانت قد خرجت من الحرب لتوّها، لم تَكُن تريد أن تثير الرأي العام بداخلها، عبر تقديم مأساة جديدة على شكل ذلك الفيروس، فاكتفت بترميم آثار ما خلفته الحرب العالمية الأولى.
أخيرًا، تؤكد الكاتبة لاورا سبيني، المختصة بمجال العلوم، بأن الحقيقة الوحيدة التي يُمكن الجزم بها هي أن الإنفلونزا الإسبانية لم تنطلق لتجتاح العالم من شبه الجزيرة الأيبيرية أساسًا، لكن التُهمة قد تم إلصاقها بإسبانيا لاعتبارات سياسية، لتتوه الحقيقة بين ثنايا الأيام.