إن كنت أحد محبي رياضة البيسبول، أو حتى متابعًا جيدًا للنجم براد بيت، فبالتأكيد قد سبق ووصلتك أنباء عن ما قدمه الأخير بعنوان “Moneyball”، ذلك الفيلم الذي يقُص حكاية “بيلي بين”، مدرب فريق “أوكلاند” للبيسبول، الذي نجح في قيادة فريقه المغمور إلى الفوز في 20 مباراة متتالية بميزانية محدودة للغاية مقارنةً بمنافسيه.
يعود الفضل كل الفضل لثورة الإحصائيات التي ساعدته على الكشف عن المواهب المدفونة، من ثم تطويعها لصناعة فريق صلب، استطاع أن يصنع ما عجز عنه أي فريق آخر منذ 100 عام.
لهذا، قام الكاتب مايكل لويس عام 2003 بنشر كتابه “Moneyball” الذي لاقى رواجًا كبيرًا بين أوساط المشجعين، لتتم إعادة إنتاجه على هيئة فيلم سينيمائي من بطولة براد بيت في 2011. لكن القصة لم تنته هنا.
فبشكل ما، وعقب نجاح هذه القصة الحالمة، تم نقل فكرة استخدام الإحصائيات إلى ميدان كرة القدم، عبر مؤسسات ضخمة تقوم بجمع البيانات، وأحيانا تحليلها، ثم إرسالها للأندية. وبات أيضًا من البديهي، أن يمتلك فريق كرة القدم أطقم بعينها متخصصة بجمع البيانات وتحليلها، لاستخدامها في التعاقد مع اللاعبين، إضافة بعض التعديلات الفنية على قرارات المدربين، أو حتى لتقييم قوائم اللاعبين الخاصة بهم.
ماتيو بنهام.. مقامر ذكي
لا يعتبر هذا الإسم مهمًا بهذه اللحظة، ربما لأنك لا تعرف أن ماتيو هو ملياردير جمع ثروة هائلة، مستغلا عمله في المقامرات بمجال كرة القدم التي عشقها منذ نعومة أظفاره وحتى الآن.
بالعام 2004 كان قد أنشأ بنهام شركته الخاصة «Smarttods» التي تقدم استشارات خاصةً بالاحتمالات المتوقعة لنتائج مباريات كرة القدم، والتي يستخدمها عدد مهول من المهتمين بذلك المجال المربح.
مع تزايد الأرباح التي حققها ماتيو، أقدم على استغلال بعضًا ما جمع من الأموال لإشباع شغفه، حين قرر في 2006 شراء حصة من نادي طفولته برينفورد الإنجليزي قبل أن يعلن استحواذه تمامٌا علئ أسهم النادي في 2012، ثم ضمّه لنادي ميتلاند الدنماركي لقائمة ممتلكاته في 2014.
من وجهة نظر بنهام، الصدفة هي شيء لا يمكن الاعتماد عليه على المدى الطويل، ربما ترجع هذه الفكرة لطبيعة عمله الأساسي التي تحتم عليه حساب أدق التفاصيل رقميًا، وتجنُّب المتغيرات العشوائية أثناء عملية التقييم. فهو يرى بأن الأرقام لا يمكنها أن تكذب، أو تنافق، حتى وإن كانت بطبيعة الحالة لا تستطيع أن تخبرك بكل ما يدور داخل أرض الملعب. باختصار، يبحث ماتيو عن المصداقية لا أكثر ولا أقل.
حتى تتضح لك الصورة كاملة، في 2015 كان فريق برينتفورد قد صعد لتوه من “League One” إلى الـ”Championship”، وبحلول فبراير، وصل الفريق للمركز الـ5 على سلم ترتيب الدوري، الأمر الذي يمكننا اعتباره إنجازًا يستحق المدح والثناء، إلا أن ماتيو وبشكل مفاجئ، قرر أن يطرد المدير الفني والمدير الرياضي للفريق، لكن لماذا؟
يمتلك بنهام نموذجا خاصا للتقييم به، لأنه كما ذكرنا سلفًا يعتقد أن مساحة العشوائية بكرة القدم كبيرة، لذا فقد لا تعبر النتيجة عن الآداء الفعلي للفريق. طبقًا لنموذج بنهام العادل الذي صممه بنفسه، فبرينتفورد كان من المفترض أن يقبع بالمركز الـ11 بذلك الموسم وليس الـ15، ما يعني أن مدربه كان محظوظا فقط.
“من السهل أن تذهب لمدرب خاسر وتخبره بأنه لم يحالفه الحظ، أما أن تخبر فائزًا بأنه كان محظوظا فهو أمر صعب التصديق”.
– ماتيو بنهام موضحًا أهم درس تعلمه من دخوله عالم الإدارة بكرة القدم.
على كلٍ بدا ماتيو على الأقل متسقًا مع ذاته، فهو يقوم بتسيير ناديه وفقًا للطريقة التي نجح بها بحياته العملية، والتي تتفادى بشكل كلي القرارات المبنية على الانفعالات.
“يجب التغيير طالما وجدت حاجة إلى ذلك، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى”.
– فأر تجارب كرة القدم
كما ذكرنا يمتلك ماتيو بنهام ناديا آخرا -ميتلاند الدنماركي-، ويكفي أن نخبرك بأن النادي المغمور قد نجح منذ العام 2014 حصد 3 ألقاب دوري ولقب كأس، إضافة إلى وصوله لدور المجموعات بدوري أبطال أوروبا، مع التأكيد على هذا النادي لا يمتلك إرثًا تاريخيا، ولا ميزانية ضخمة من الأساس.
النجاح الذي وصل له فريق ميتلاند جاء عن طريق محاولة خلق هامش أفضلية على المنافسين، عبر الاستثمار في قطاعات غير تقليدية، مثل تطوير الناشئين وإثقالهم، إقحام البيانات والتحليل الإحصائي في تحديد أسلوب لعب الفريق وحتى تطوير طريقة الكشف عن المواهب. وهذا ما وصفه سفيند جرافيرسين، المدير الرياضي للنادي، بامتلاك عقلية التطوّر.
بذكر هامش الأفضلية، أحدث ميتلاند ثورة بكرة القدم الدنماركية، حين أجبر ناشئيه على التدرب يوميًا بدلا من 3 أيام بالأسبوع كسائر أندية الدنمارك، يضاف إلى ذلك أنه النادي الأول في الدنمارك، الذي أقحم علم البيانات كأساس لتعاقداته، وطريقة لعبه، وصولا إلى تعاقده مع “توماس جرونيمارك” المختص بالتدريب على رميات التماس، والذي رحل بعد هذه التجربة لمعاونة الألماني يورجن كلوب في ليفربول الإنجليزي.
يخبرنا رئيس قسم التحليل بالنادي، بأن النادي قد استثمر في قطاع التحليل بشكل ضخم، حتى وإن كان المتابع العادي لا يمكنه ملاحظة ذلك. فمثلا، سجل ميتلاند بآخر 5 سنوات أهداف من كرات ثابتة أكثر من أي فريق بالعالم، وبفرق ضخم عن الفريق الذي يليه، كما أن عدد هذه الأهداف يساوي ربع ما سجله الفريق إجمالا. وأضاف بأن الأمر تعدى كونه توصية يقدمها طاقم التحليل للمدير الفني، لكن عبارة عن منهج يتم تدريسه للاعبين بعد دراسة مستفيضة.
لأن الإنسان بالتأكيد أذكى من الأرقام
يدرك مسؤولو ميتلاند وبرينتفورد بأن استيعاب اللاعبين لهذا الكم الضخم من المعلومات ليس بالأمر اليسير، لأن اللاعبين بالنهاية بشر، يختلفون باختلاف درجات استيعابهم، لذا لا يمكن أن يظل الأمر حكرًا على الأرقام وحدها.
لذا، عيّن فريق ميتلاند مثلا، ضابطا سابقا بفيلق الصيادين بالجيش الدنماركي، ليكون صميم عمله تهيئة اللاعبين نفسيا، والتواصل معهم بشكل أكثر ودية، ومعرفة دوافعهم ومخاوفهم في الحياة بشكل عام، والغرض من ذلك، هو أن يشعر اللاعب بأنه أكثر من مجرد آله، بل جزء لا يتجزأ من الفريق. بنفس الصدد؛ درس النادي إمكانية العمل مع استشاريين نفسيين لدراسة خلفيات اللاعبين الثقافية، ومن ثم الطريقة المُثلى للتعامل مع كل لاعب نفسيا بمفرده.
طبقًا لروري سميث، محرر نيو يورك تايمز، هامش الأفضلية الذي يمتلكه حاليًا ميتلاند أو برينتفورد، أو أي ناد آخر، سيختفي مع مرور الوقت، لأن المؤسسات الأكثر ضخامة ستقفز دون شك على هذه الأفكار الجديدة، وتدعمها بقدرات مادية هائلة، لذا، يرى راسموس أنكيرسين، الذراع الأيمن لبنهام، بأن الحرب القادمة لن تتعلق باستخدام البيانات وتحليلها وحسب، بل عبر استخدامها بذكاء، ومحاولة البحث عن مساحات جديدة من الاكتشافات التي لم تطأها أقدام بعد.
أخيرًا؛ ربما تبدو تجربة بنهام ملهمة بالفعل، حتى وإن لم تصل بعد إلى الوجاهة المطلوبة، بيد أن هذا الاستثمار يبدو أكثر منطقية من صرف الملايين بالتعاقد مع اللاعبين، لأن عمر اللاعب الفعلي داخل الملعب لا يتجاوز الـ15 عامًا في المتوسط، فربما هذه هي الطريقة المُثلى لتكرار قصة بيلي بين العظيمة، بأنه يحقق فريق مغمور إنجازا ضخمًا دون إمكانيات مادية تذكر.