لم تطب الحياة لأحدٍ أبد الدهر؛ فلا بد من اجتياح الأزمات والعقبات تلك السكينة في وقتٍ ما، وقد تخرج عن كَونها عقباتٍ فحسب، حتى إذا ما تعرض الشخص لأزمة نفسية أو صدمة معينة؛ ظهر العديد من آثار الصدمة النفسية على الجسم، والتي تختلف تبعًا لدرجة تحمل الفرد وكذلك لدرجة بشاعة الموقف وما يتركه من آثار وراءه؛ فلا بأس ببعض العثرات لنكمل الطريق إلى حيثما نشاء، فقط اعزم الأمر الآن على معرفة ما يعنيه اضطراب ما بعد الصدمة، وما يبُثه ذلك الاضطراب من آثار نفسية وجسدية عديدة.
ما يعنيه اضطراب ما بعد الصدمة
يتساءل الكثير منّا حول آثار الصدمة النفسية على الجسم دون التطرق لعوامل تلك الصدمة من الأساس، أو ماهية تلك التجارب، وماذا يُطلق عليها؟ وهذا ما سوف نسلط عليه الضوء الآن؛ هناك ما يُطلق عليه اضطراب ما بعد الصدمة، والذي يأتي تبعًا للحوادث أو المخاطر بصفة عامة؛ كالاغتصاب أو الكوارث أو الاختطاف أو الحوادث الخطيرة والموت وما شابه، كافة هذه العوامل تترك آثارًا في النفس ليس من السهل الترفع عنها، وبالمعنى الأشمل؛ فإن ذلك الاضطراب ما هو إلا حالة صحية نفسية يتأثر بها العقل؛ تأتي كنتيجة لأحداث حياتية مخيفة، وقد يطلق عليه أحيانًا “اضطراب الكرب التالي للرضح”.
في الغالب يبدأ هذا الاضطراب في الظهور في غضون بضعة أسابيع من الحادثة، وقد تكون شهورا، على ألا تتعدى فترة ظهور تأثير الصدمات النفسية سواءً الجسدية منها أو النفسية 6 أشهر؛ ولكن مع السيطرة على هذه الأعراض وتجنب تفاقمها باتباع سبل العلاج والاهتمام بالنفس، تستطيع تخطي تلك المرحلة العابرة التي قد تكون عائقًا لا بد من اجتيازه.
أنواع الصدمات النفسية وأشكالها
ليس بيننا من هو مُحصن ضد الصدمات النفسية بأي شكلٍ كان، فكلنا معرضون لها بشكلٍ أو بآخر، فلم تتشابه حدة أي صدمة نفسية مع الأخرى؛ وبالتالي فإن التباين في تأثير الصدمات النفسية أمر طبيعي لا جدال فيه؛ وعلى الرغم من كَون تلك الصدمات والحوادث مفاجئة إلى حدٍ ما؛ إلا أن العلم بها مسبقًا قد يجعلك متفاديًا لها ولو بنسبة ضئيلة؛ وتتمثل أشكال الصدمات النفسية المختلفة فيما يلي:
- التعرض لحوادث السيارات المؤلمة وتجسد مظاهر مخيفة أمامك.
- الشعور بالخوف الشديد جرّاء بعض الأمور مثل ركوب الطائرة.
- حالات الطلاق أو رؤية معدات طبيب الأسنان؛ قد تصيب البعض بصدمة نفسية.
- الإنصات للقصص الحزينة كالقتل أو غرق الأطفال.
أما بالنسبة لأنواعها فتأتي مشتملة على عدة أنماط تتدرج حدتها وفقًا لنوع الصدمة النفسية؛ وتتمثل تلك الأنواع فيما يلي:
الصدمات الحادة
يحدث هذا النوع من الصدمات جرّاء التعرض لأحداث مؤلمة، والتي تخلُف وراءها العديد من الآثار السلبية على كلا الشقين الجسدي منها والنفسي، ومن صور هذه الصدمات؛ التعرض لحالات الاغتصاب، أو فقد شخص عزيز.
الصدمات المزمنة
يأتي تأثير الصدمة النفسية على الجسم جرّاء الصدمات المزمنة أكثر حدةً عن غيره؛ فهنا يختلف الأمر قليلًا؛ إذ يأتي هذا النوع كنتيجة لموقفٍ قد طال التعرض له لمدة طويلة كالتنمر مثلًا، ويتضاعف الأثر كنتيجة لسلبية الرد على الموقف أو حتى الفرار منه.
الصدمات المعقدة
تتنوع الصدمات المعقدة لتحوي بين صورها العديد من المواقف المختلفة؛ مثل معاملة الأطفال داخل المنزل بطريقة خاطئة منذ الصغر، الأمر الذي يعزز من ترّسخ المشاعر السلبية، وبث روح التقيد داخل نفس الطفل.
الصدمات الثانوية
يختلف هذا النوع من الصدمات عن غيره بكَونه غير مباشر؛ إذ تترسخ كافة تلك الأعراض والمضاعفات لدى شخص معين قد سبق له التعامل مع شخصٍ آخر، وهذا الأخير قد تعرض بالفعل لحادث مروع أو صدمة معينة.
آثار الصدمة النفسية على الجسم وتبعاتها
في أحيانٍ كثيرة قد لا تستطيع تحمل تلك الأحداث المخيفة الجائرة بهدوئك؛ وعندئذ يتولد تأثير الصدمة النفسية على الجسم لا محالة، كما تختلف الاستجابة للصدمات بكافة مراحلها في الأطفال عنه في البالغين، ولكن تظل آثار الصدمة النفسية على الجسم مُبلورة في كَونها جائحة؛ وتتمثل تلك الآثار الجسدية فيما يلي:
- الشعور الدائم بالأرق وفقد الشغف، وعدم القدرة على القيام حتى بأبسط الأمور الحياتية.
- فقدان القدرة على التركيز، والإحساس بالإرهاق والتعب والخمول.
- الشعور بخفقان القلب الزائد عن المعدل الطبيعي واضطراب النبضات.
- فقد الطاقة البدنية والإحساس بالآلام المتعددة، والتعرض للاضطرابات المختلفة كاضطراب القدرات الإدراكية.
- تأتي آثار الصدمة النفسية على الجسم بالتأثير العكسي على المناطق الدماغية عامةً؛ وبصفة خاصة القشرة الأمامية الجبهية منها، أو الحصين أيضًا، وهذه المنطقة الأخيرة مسؤولة عن وظائف الذاكرة والتعلم.
- قد تؤثر أيضًا على منطقة اللوزة؛ وهي التي تختص بالمشاعر والقرارات بصفة خاصة.
- تأتي آثار الصدمات النفسية في أخطر أشكالها، عندما تتعلق بالقلب؛ ففي بعض الحالات قد تصل النتيجة إلى حد الموت أو التعرض للجلطات.
علامات وآثار الصدمة النفسية بصفة عامة
لم تقتصر آثار الصدمات النفسية على الجسم فقط، بل تشمل بين تبعاتها العديد من الآثار الأخرى التي تصل لدرجة الإجهاد النفسي، وفقد القدرة العامة على ممارسة الحياة بالشكل الطبيعي؛ وتنقسم تلك الأعراض لتشمل عدة مجموعات أساسية تتمثل فيما يلي:
إعادة التجربة
هنا يواجه المصاب صعوبات متتالية بمجرد تذكر الحدث واسترجاع تفاصيله؛ ومن هذه العواقب السيئة التي تطرأ عليه:
- تذكر الحدث بالصورة الحية له مع استرجاع ذكريات تطفلية عائدة إليه.
- استرجاع ذكريات الماضي، وبها تتجسد صورة الموقف ويكأنه قائم لم ينتهِ بعد.
تجنب التذّكر
على نقيض إعادة التجربة تمامًا؛ ففي بعض الحالات قد لا يرغب المريض في إبقاء الموقف حيًا بداخله، بما يشتمل عليه سواءً كان بالابتعاد عن الناس أو الأحداث أو حتى الأماكن، وبالتحرر من تلك التفاصيل يجد الفرد المصاب نفسه بداخل قوقعة الوحدة؛ وتأتي تبعاتها متمثلة فيما يلي:
- الشعور بافتقاد الروح العاطفية بداخله، وفقد القدرة على التعبير عمّا يرغب به، أو حتى عن مشاعره.
- الميل للوحدة والانعزال عن التجمعات سواءً كان الأصدقاء أو العائلة.
- فقد الذاكرة ومحو تفاصيل الحدث بشكل فعلي.
آثار الانفعال والإثارة
يشعر المصاب ببعضٍ من مشاعر الإثارة والانفعال التي تجعله متهيجًا تجاه أغلب المواقف حتى البسيط منها؛ وتتمثل فيما يلي:
- في أغلب الأحيان قد يأتي رد الفعل مروعًا بالنسبة لحدة الحدث العادية.
- الشعور بالرغبة المستمرة في النوم، أو على النقيض تمامًا فأحيانًا تنتابه صعوبة النوم.
- الإحساس بالغضب الدائم، وكذلك الحذر من الآخرين.
أعراض المزاج والإدراك
يحمل الفرد العديد من المشاعر السلبية والمعتقدات التي تجعله بمنأى عن التعامل مع الحدث أو الموقف السيئ عامةً؛ وتتجسد تلك المشاعر فيما يلي:
- إدراك النفس بشكل خاطئ والانغماس في بؤرة الأفكار السلبية تجاه المجتمع عامةً.
- مواجهة صعوبة في تذكر الموقف أو الصدمة أيا ما كانت.
- في أحيان أخرى قد ينتابه الإحساس بالذنب.
تأثيرات أخرى للصدمات النفسية
- اضطراب النفس وتهيج المشاعر السلبية عقب التعرض للحادث؛ فتراك تُكن في نفسك ما يكفي من التوتر والقلق والخوف واليأس.
- رؤية الكوابيس بصفة مستمرة؛ إذ تهاجمك تلك الأحداث المؤلمة والصدمات دائمًا.
- تقلّص مساحة اهتمامات المريض بذلك الاضطراب؛ فتراه منسحبًا مما كان مهووسًا به من قبل.
- الشعور بالإغماء والتهيج، وكذلك الصداع والدوخة أيضًا.
مضاعفات آثار الصدمة النفسية
في حالة عدم البدء بتلقي العلاج بالشكل الصحيح للتخلص من آثار الصدمة النفسية على الجسم، فقد تتفاقم تلك المشكلة لتأتي بمضاعفاتٍ أخرى بدورها تنتهك لذة الحياة؛ ومن هذه المضاعفات ما يلي:
- التعرض لبعض الاضطرابات بشكل تبعي؛ مثل الاضطراب التفارقي.
- عدم الرغبة في التواجد في الأوساط الاجتماعية وتقليص دائرة المعارف.
- الشعور بالعجز تجاه أغلب الأمور والخجل والعدائية.
- النقاش الحاد مع العائلة وبصفة مستمرة.
- تدمير الذات وعدم السيطرة على السلوكيات والانفعالات.
- الميل للطريق الخاطئ أحيانًا؛ مثل شرب الكحول بصفة مستمرة وتعاطي المخدرات.
- التعرض لانفصام الشخصية، واتباع الأنماط المختلفة للسلوك القهري.
كيفية تخطي وعلاج الصدمة النفسية وآثارها
لا يمكن لأحدٍ إلقاء اللوم عليك فيما تشعر به من آثار تبعية سيئة للأحداث والصدمات، ولكن في الوقت ذاته؛ فلا يجب عليك ألا تترك نفسك حبيسة تلك المشاعر السلبية، التي قد تصل بك إلى الانتحار أحيانًا، الآن افعل الصواب واتبع النصائح التالية وتخلص من آثار الصدمة النفسية على الجسم والنفسية معًا، فقط باتباع تلك الخطوات الموجودة أدناه:
التنحي عن محيط العزلة
تفتح العزلة مجالًا واسعًا أمام استعراض طيف الذكريات المؤلمة؛ فكلما تقوقعت داخل نفسك وبشدة، كلما تكالبت عليك الهموم والآلام، لذا فأنقذ نفسك الآن وانفض غبار اليأس عن تفكيرك، حتى لا تكون فريسة العزلة والوحدة، وأحط نفسك علمًا فلا عون لتخطي ذلك الشعور سوى بالانخراط وسط الأصدقاء والأحباب.
طلب الدعم وقتما تشاء
من المؤكد أن نُكن بداخلنا تأثير الصدمات النفسية بشكلٍ أو بآخر؛ فلا بأس بطلب الدعم سواءً كان من الأقارب أو الأصدقاء، أو حتى طبيب نفسي إذا دعت الحاجة لذلك، حتى تستطيع التخلص من مخاوفك ومشاعرك السلبية الدفينة بداخلك جرّاء ذلك الموقف.
عدم التغاضي عن المشاعر السلبية
الخطوة الصحيحة والبادئة في الأمر لتخطي ألم الحوادث والصدمات مهما كانت، وخاصةً العاطفية منها؛ أن تبدأ بالإقرار بمشاعرك السلبية وعدم تجاهلها، فلم يكن الحل التغاضي عنها في أي وقتٍ كان، ولم يأتِ ذلك التجاهل بالنسيان بتاتًا؛ فإذا كنت تريد الانهيار في وقت معين فاخضع لتلك المشاعر وقتها، حتى تستطيع الوقوف بشموخ والبدء من جديد.
ترك اليأس جانبًا والتأمل للحياة من جديد
كيف لحادثٍ معين أو أزمةٍ ما في حياتك أيًا كانت حدتها أن تمر عليك وتعلن انتصارها؟ عليك بأن تعلن المحاربة؛ متخطيًا كافة العوائق النفسية المتخللة بداخلك، من خلال التمسك بالأمل دون اليأس، والعودة للحياة بالشكل الذي كنت عليه سابقًا، بل والسعي للأفضل أيضًا؛ فكم من محنةٍ مرت سابقًا ولم تعلن هزيمتك عندها! واستطعت البدء من جديد.
أساليب التخلص من آثار الصدمة النفسية على الجسم
في حالاتٍ معينة قد تبوء تلك الطرق السالف ذكرها بالفشل، وعندها يمتلكك اليأس لا محالة، ولكن لا تستسلم؛ فهناك بعض التقنيات التي تساهم في التخلص من تداعيات وآثار الصدمة النفسية؛ إذ يتم اتباع تلك التقنيات تحت إشراف المراكز المتخصصة للعلاج النفسي؛ وتتمثل فيما يلي:
العلاج السلوكي المعرفي
في تلك المرحلة، يحرص فيها الطبيب المختص على مواجهة المريض بالصدمة، وإتاحة الفرصة أمامه بإطلاق العنان لمشاعره بالظهور، وتأتي تلك المرحلة بفوائدها الجمّة من خلال تخفيف عبء التفكير عن المريض، وكذلك تساعده في التقليل من حدة الأعراض المصاحبة لآثار الصدمة النفسية على الجسم.
العلاج النفسي
يشغل العلاج النفسي دورًا مهمًا بين تقنيات التعافي من آثار الصدمة؛ إذ يساعد المريض في تخطي الأزمات والأعراض بكافة ما يحمله من مشاعر مكنونة، مما يتيح الفرصة أمامه للتغلب على خوفه وقلقه.
مجموعات الدعم
يستطيع الطبيب المختص من خلال تلك المرحلة جمع المريض مع من يعانون من نفس اضطرابه، ليستطيع التعبير عن مشاعره بأريحيةٍ كاملة، الأمر الذي بدوره يُخفف من وطأة الأثر النفسي، فيكفيه الشعور بعدم الوحدة ولو كان رفيقًا بالمرض.
العلاج الدوائي
نظرًا لاجتياح صعوبة النوم آثار الصدمة النفسية على الجسم كعَرَض واضح من بينها؛ فهناك بعض الأدوية التي تساعد في تخطي تلك العقبة والشعور بالهدوء والسكينة، أو النوم وعدم تذكر الأفكار المخيفة كحدٍ أدنى، ومنها العلاجات الدوائية المضادة للاكتئاب والقلق.
في ختامنا لتلك السطور التي تشبعت بكافة آثار الصدمة النفسية على الجسم، فلم يعد بمقدورك الآن إعلان راية الاستسلام لتلك المشاعر الجائحة أبدًا، فقط عليك ألا تسمح لأفكارك المزعجة تلك بالسيطرة عليك، تحرّر منها الآن وتجاوز المحن وعد إلى الحياة بالشكل الطبيعي.