ربما لم يخطر على بال أحد أن المسلمين قديما عانوا كثيرا خلال شهر رمضان، وأنهم كانوا يؤدون شعائر الصلاة وكذلك الصيام سرا، خوفا من محاكم التفتيش، فما القصة إذن؟
في العام 1492 ميلاديا سقطت دولة الأندلس الإسلامية في يدي فرديناند وإيزابيلا ملكي أراغون وقشتالة، وانتهى عهد من الفتوحات الإسلامية الكبرى التي نشر بها المسلمون الدين الإسلامي في أوروبا، وبعد السقوط المخزي عانى المسلمون الأندلسيون كثيرا تحت الحكم الإسباني، ومنعوا من ممارسة شعائر دينهم، وكان أول ما قام به فرديناند وإيزابيلا أن أصدرا قرارا بتحويل كل المساجد إلى كنائس، ثم اتخذ المنع شكلا أشد تنكيلا وفحشا، فأرغموا المسلمين على ترك دينهم والتحول القسري إلى المسيحية.
وبعد أن كانت الأندلس ملجأ لأصحاب الديانات السماوية كلها -فقد كان المسلمون يعيشون جنبا إلى جنب رفقة اليهود والمسيحيين دون إجبارهم على التخلي عن دينهم- أجبر الملكان سكان الأندلس على ترك دينهم عام 1499، وقاموا بتعميدهم غصبا، ومنع التحدث باللغة العربية تماما، كما أجبروهم على التخلي عن الأزياء والأسماء الإسلامية، فأصبح المسلمون يمارسون شعائر دينهم سرا فيؤدون الصلاة في مخابئ سرية ويجتمعون لتلاوة القرآن، ويصومون رمضان سرا، وظلوا على هذه الحال حتى علم الملك بأمر الحياة المزدوجة والسرية التي يعيشها المسلمون الأندلسيون، فأمر بإنشاء محاكم التفتيش الإسبانية.
لمحة عن محاكم التفتيش
محاكم التفتيش الإسبانية -لمن لا يعرف- هي محاكم تابعة للديوان المقدس، أنشأها فرديناند وإيزابيلا بمباركة البابا سكيتوس الرابع (بابا الكنيسة الكاثوليكية الـ212) عام 1478، وكانت مهمتها الحفاظ على العقيدة الكاثوليكية لإسبانيا، حتى وإن تم إجبار غير الكاثوليكيين على ترك أديانهم والتحول إلى المسيحية بالتعذيب والتنكيل، وإلحاق شتى أنواع الأذي بهم وبذويهم.
واتبعت تلك المحاكم سياسة ترهيبية غير مسبوقة، فبخلاف الممارسات الوحشية التي كانت تنتهجها مع الضحايا، روجت الرعب في أنحاء إسبانيا في تلك الفترة، واضطر آلاف من المسلمين واليهود إلى اعتناق المسيحية خوفا من البطش، فقد كان موظفو التعذيب في تلك المحاكم يتفننون في ابتكار صنوف العذاب، ومن أنواع الممارسات الرهيبة التي كانوا يمارسونها على الضحايا، ملء البطن بالماء حتى الاختناق، ومباعدة الفكين بآلات حادة حتى ينفصلا، وسحق العظام بآلات ضغط ثقيلة جدا، وتعليق المتهمين على الصليب وضرب ظهورهم بالأسياخ المحمية على النار.
هكذا اندثر الإسلام من إسبانيا
كانت لمحاكم التفتيش سطوة ونفوذ في إسبانيا، فقد حاكمت أكثر من 150 ألف شخص، وأعدمت 3250 ألفا، ثم بدأ نفوذها يخبو مع زيادة التقارير التي تؤكد أن التعذيب والتنكيل وحتى القتل لم يؤثر على المسلمين أو “الموريسيكيين”، وهو الاسم الذي أطلقه الإسبان على من تبقى من أهل الأندلس، في ترك دينهم، فأصدر الملك فيليب الثالث قرارا بطردهم من إسبانيا، ورحل نحو نصف مليون أندلسي قسرا إلى البلدان المجاورة كالمغرب وتونس والجزائر، وتم نهب أملاكهم وثرواتهم من قبل السلطة الكاثوليكية بين عامي 1609- 1614، واستمرت محاكم التفتيش بعد ذلك لكن دون سطوة كبيرة حتى ألغيت عام 1834 في عهد الملكة إيزابيلا الثانية.
وبعد طرد الأندلسيين من إسبانيا دخلت الدولة في فترة من أحلك فتراتها التاريخية، حيث أدى رحيل آلاف الحرفيين والزراع إلى اندثار أكثر المهن رواجا كالبناء والنقل، وجدبت الأراضي الخصبة.
أما محاكم التفتيش القديمة التي أنشئت عام 1232، فكانت لمحاكمة الهراطقة والذين يمارسون السحر والشعوذة، لكن لم يكن لها أي مشاكل مع الأديان الأخرى حتى عام 1477، حين أقنع أحد الرهبان الملكة إيزابيلا بأن بعض اليهود والمسلمين الذين تحولوا إلى المسيحية، لا يزالون يمارسون أديانهم سرا.
العذاب مع محاكم التفتيش
مع إنشاء محاكم التفتيش، بدأ فصل جديد من القمع والتنكيل بالمسلمين، وقد أورد المؤرخون الإسبان ملامح الحياة عند المسلمين خلال تلك الفترة، فذكر المؤرخ الإسباني بورونات إيباراتشين في كتابه عن تلك الحقبة: “كان المسلمون يصومون مدة 30 يوما، لا يأكلون في تلك الأيام إلا خلال الليل، وفي كل ليلة يتسحرون فيأكلون ما فاض منهم من طعام الإفطار، وقبل الفجر يغسلون أفواههم ويتحضرون للصلاة، وكانوا يعرفون قدوم شهر رمضان عبر رؤية الهلال وينتهي برؤية الهلال، ثم يحتفلون بالعيد، وفي يوم العيد، يتسامح المسلمون فيما بينهم، فيقبل الولد يد أبيه ويطلب غفرانه، ويبارك الأب ولده ويدعو له بالبركة والصلاح”.
وتشير المؤرخة الإسبانية غارسيا مارثيدس إلى أن صوم رمضان كان أكثر العبادات التي حرص المسلمون على أدائها في ظل محاكم التفتيش، فقد جاء ذكر الصوم في أغلب محاضر محاكم التفتيش التي حفظت في مخطوطات وصل إليها المؤرخون فيما بعد، يليه الوضوء والصلاة.
نشرت السلطات التابعة لمحاكم التفتيش جواسيس ووشاة في أرجاء البلاد، للكشف عن أي مسلم متخف يمارس الشعائر الإسلامية، وحددت لائحة طويلة من الأفعال الإسلامية التي تدل على أن فاعلها مسلم، وكان أهم مظهر في تلك اللائحة هو مراقبة صوم رمضان عبر تحديد الممتنعين عن الأكل والشرب خلال النهار، أو الذين يستيقظون لتناول الطعام قبيل الفجر، أما محاولة رؤية الهلال لمعرفة قدوم الشهر الفضيل، فكانت مهمة محفوفة بالمخاطر، إذ كانت تتطلب الصعود إلى أعالي الجبال والمرتفعات وهو أمر لم يكن يغيب عن أعين الوشاة والجواسيس.
كان المسلمون يساقون إلى محاكم التفتيش في شهر رمضان أكثر من غيره من الشهور، رغم ذلك ظل المسلمون الأندلسيون يصومون رمضان حتى القرن السابع عشر، فقد ذكر المؤرخ والباحث الإسباني خوليو باروخا أنه في بداية القرن الـ17، كان أهل مرسية ومن بقي من غرناطة يصومون رمضان، أي بعد نحو أكثر من 100 عام على سقوط الأندلس.