ذكر الله تعالى في محكم آياته إرم ذات العماد فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6 – 8]، وهي مدينة قوم عاد الذين سكنوا منطقة الأقحاف، وكان قوم عاد أعظم أهل زمانهم في ضخامة أجسامهم، كانوا عمالقة وأقوياء، ولطالما افتخروا بقوتهم، فلم يكن في زمانهم أحد يضاهيهم، ورغم قوة أجسامهم فقد كانت لهم عقول مظلمة.
من هم سكان إرم ذات العماد؟
هم قوم عاد وكانت هذه القبيلة تسكن مكانا يسمى الأقحاف، (وهي جزء من جنوب شرقي الربع الخالي بين حضرموت جنوبا، والربع الخالي شمالًا، وعمان شرقًا) وهو مكان صحراء يطل على البحر.
أما مساكنهم فكانت خيامًا عظيمة لها أعمدة شديدة الضخامة والارتفاع، وكان قوم عاد أعظم أهل زمانهم في قوة الأجسام، والطول والشدة، ويرجع بعض المفسرين تسميتهم بعاد لأنهم أول من عادوا وعبدوا الأصنام، فبعد أن ابتلعت الأرض مياه الطوفان الذي أغرق من كفر بنبي الله نوح عليه السلام، كان كل من على الأرض في ذلك الوقت من المؤمنين الموحدين.
ومرت سنوات وسنوات، ونسي الناس وصية نوح، وصنعوا تماثيل لآبائهم ليذكروهم بها، وتطور هذا التعظيم إلى العبادة، وعادت الأرض تشكو من الظلام مرة ثانية، وأرسل الله سيدنا هود عليه السلام إلى أهله قبيلة عاد {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ}. الأعراف 65
لغز المدينة المفقودة
إرَم ذات العماد هي مدينة عربية مفقودة يؤمن بوجودها المسلمون بسبب ذكرها في القرآن الكريم، وهي تعتبر من الأساطير لغير المسلمين، وقد ذكر الهمداني، وياقوت الحموي (في معجم البلدان) أنها كانت من بناء شداد بن عاد، ويقال إنه سمع عن جنات عدن، فأراد أن يقيمها على الأرض، وقد فقدت تحت الرمال، ولا يعرف بالتحديد مكانها الآن.
وقد أثيرت حولها الأساطير، ونسجت حولها العديد من الروايات، تحتوي على مبالغات كثيرة حول شكل وعظم المدينة وفخامتها (مثل كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار: ص 22 ـ 24، وكتاب ألف ليلة وليلة في الليلة الـ277، و279)، وتحكي هذه القصص أن شداد بن عاد عزم على أن يبني له جنة، واختار مكانا واسعا وعزم على أن يبنيها بناء عظيمًا، وأرسل يجمع له ما عند الملوك من الذهب، واللؤلؤ، والزبرجد والمرجان، وأنواع الجواهر.
فجمع له ما أراد وبنيت هذه المدينة وكان عنده عمال كثيرة يقال إنهم ألوف من العمال، وقد مكثوا في بنائها 10 سنين، فصنعوا مدينة من ذهب، وفضة وتحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد وعلى المدينة قصور، ومن فوق القصور غرف، ومن فوق الغرف غرف من ذهب، وغرسوا تحت القصور في أزقتها أصناف الثمار، وأجروا فيها الأنهار حتى تكون تحت الأشجار.
ويظهر أن هذه القصص ليست صحيحة، وقد قال ابن كثير في تفسيره (4/508): «وهذا كله من خرافات الإسرائيليين»، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى في محكم آياته يصفها بأنها: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} مما يدل على أنها مدينة عظيمة.
كيف اختفت إرم ذات العماد؟
ذكر القرآن الكريم أن قوم عاد كانوا في نعمة من الله عظيمة، ولكنهم بطروها ولم يشكروها فعبدوا الأصنام، فبعث الله لهم سيدنا هود، فحدثهم عن نعمة الله عليهم، وكيف جعلهم خلفاء لقوم نوح، وكيف أعطاهم بسطة في الجسم، وشدة في البأس، ومنحهم الخير والزرع، فلم يستمعوا إليه وكذبوه، واستنكروا أن يبعث الله من في القبور، وأنكروا أن يعيد الله خلق الإنسان بعد تحوله إلى التراب، وبدؤوا يتهمون هودًا عليه السلام بأنه سفيه مجنون.
قالوا له كما ذكر الله في سورة هود: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(53)} وتحدث هود: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} أعلن هود لهم براءته منهم ومن آلهتهم، وتوكل على الله الذي خلقه، وأدرك أن العذاب واقع بمن كفر من قومه.
انتظر هود وقومه وعد الله، وبدأ الجفاف في الأرض، وانقطع المطر، وزاد الجفاف، واصفرت الأشجار الخضراء ومات الزرع، وجاء يوم فإذا سحاب عظيم يملأ السماء، وفرح قوم هود وخرجوا من بيوتهم ينتظرون المطر كما وصفهم الله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)}. الأحقاف
تغير الجو وهبت الريح، وارتعش كل شيء، واستمرت الريح 7 ليالٍ و8 أيام فاقتلعت الخيام، ولا تكاد الريح تمس شيئا إلا قتلته ودمرته، ثم توقفت الريح بإذن ربها، ولم يعد باقيًا ممن كفر من قوم هود إلا ما يبقى من النخل الميت.
قال الله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} الحاقة، وقد نجا سيدنا هود ومن آمن معه وهلك الجبابرة، واختفت مدينة إرم إلى الأبد.