يدرك أغلبنا مدى قسوة أعراض مرض الاكتئاب، وإن تنوعت مؤقتًا بين سوء المزاج وفقدان الثقة بالذات وصعوبة الاستمتاع، فماذا إذن عن المعاناة من اضطراب الشخصية الاكتئابية الذي يجعل الحياة مغلفة بمشاعر الحزن والندم دومًا بخلاف الاكتئاب العادي؟ هذا ما نجيب عنه الآن.
اضطراب الشخصية الاكتئابية
يعد اضطراب الشخصية الاكتئابية من الحالات المعقدة التي تؤثر بالسلب على حياة المصاب من مختلف الأوجه، حيث صنفته جمعية الأطباء النفسيين في الولايات المتحدة، في الفترة ما بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، باعتباره مرضا نفسيا يستحق العلاج.
هل هو مرض نفسي؟
بالرغم من أن هذا الاضطراب لا يصنف في الوقت الحالي باعتباره من الاضطرابات النفسية بشكل رسمي، إلا أنه يدفع مرضاه للشعور بالتعاسة أغلب الوقت، والمعاناة من فقدان الثقة وعدم الرضا عن الذات، لتتشابه أعراضه بأعراض مرض الاكتئاب المعروف، رغم وجود فارق لا يمكن تجاهله.
الفرق بين الاكتئاب والشخصية الاكتئابية؟
يرى خبراء علم النفس أن الفارق الأكثر وضوحًا بين مرض الاكتئاب وبين اضطراب الشخصية الاكتئابية، يتمثل في أن الأول يسيطر على المريض بما يحمل من أعراض مزعجة لفترات متقطعة وقصيرة من الوقت، بعكس الاضطراب الثاني القادر على التحكم في نظرة المصاب تجاه الحياة بصفة دائمة، وحتى إن كان يمارس نشاطاته بصورة تبدو طبيعية.
أعراض اضطراب الشخصية الاكتئابية
“الماضي سيئ والقادم أسوأ”، هكذا ترى الشخصية الاكتئابية الحياة، ليتضح مدى التشابه، الذي يسبب الخلط في المفاهيم، بين علامات الاكتئاب، وبين أعراض اضطراب الشخصية الاكتئابية المتمثلة في:
المزاج السيئ
يبدو الشخص المصاب باضطراب الشخصية الاكتئابية، وكأنه غارق في بحر عميق من الحزن والأسى، حيث تعد مشاعر السعادة وعلامات المرح غائبة عنه من يوم لآخر.
عدم الثقة بالنفس
تعتبر نظرة مريض اضطراب الشخصية الاكتئابية لنفسه دونية تمامًا، حيث يشعر بأنه غير مؤهل لاجتياز المهام التقليدية، ولا يتمتع بالقدرات التي يمتلكها أغلب البشر، لذا يبدو غير راضٍ عن نفسه ليفقد الثقة فيها.
النقد الذاتي
تزيد مشاعر عدم الرضا عن الذات والمدعومة في الأساس بمزاجٍ سيئ لا يتغير، من سهولة الوقوع في شباك الأفكار السلبية، وتحديدًا النقد الذاتي المدمر، حيث يعد توجيه اللوم للنفس وانتقاد السلوكيات الخاصة، هو ما يشغل بال مريض اضطراب الشخصية الاكتئابية معظم الوقت.
إطلاق الأحكام السلبية
لا يكتفي مريض اضطراب الشخصية الاكتئابية بتوجيه الانتقادات السلبية للنفس فقط، بل يبدو وكأنه يزيد من صعوبة تكوين علاقات اجتماعية سوية مع البشر المحيطين، في ظل اعتياده إطلاق الأحكام والانتقادات المزعجة بحق الآخرين، ليصنف من ضمن الشخصيات الأكثر سلبية.
الشعور بالذنب والندم
تتفاعل مشاعر الشخصية الاكتئابية كافة مع بعضها البعض، لتؤدي إلى إحساسها الدائم بالذنب، بل ولا يجد مريض هذا الاضطراب المحبط أي أزمة في التفكير لأوقات طويلة في الماضي وخيباته، ليصبح كالأسير لدى مشاعر الندم القاتلة.
سمات تقليدية لدى الشخصية الاكتئابية
بينما تكشف النقاط السابقة عن أعراض اضطراب الشخصية الاكتئابية، فإن هناك بعض السمات الأخرى التي يمكن تمييزها بسهولة لدى أصحاب تلك الشخصية.
الانطوائية
بالرغم من أن الانطوائية تعتبر من السمات الشخصية التي لا يمكن تصنيفها باعتبارها من الأمراض أو الاضطرابات النفسية، بل تساعد صاحبها أحيانًا على الإبداع والنجاح في صمت، فإنها تعد من سمات الشخصية الاكتئابية بدرجة سلبية، حيث تميل للبقاء بعيدًا عن البشر إما لفقدان الثقة بالنفس أو لصعوبة الاستمتاع بالوقت في كل الأحوال.
عدم الفاعلية والحزم
يجد مريض اضطراب الشخصية الاكتئابية صعوبة شديدة في تقرير مصيره أو حتى في اتخاذ القرارات العادية بصورة تتسم بالحزم، حيث يعاني حينها من الشعور بالعجز ومن سيطرة المشاعر السلبية على الذهن، ليبدو من الشخصيات المحرومة من الفاعلية في الحياة.
السير وراء الجماعة
يتسبب السلوك السلبي لدى الشخصية الاكتئابية، والخوف من اتخاذ القرارات الحاسمة وعدم امتلاك الثقة الكافية لذلك من الأساس، في اعتماده على وجهات نظر الآخرين، حيث يميل إلى السير وراء المجموعات خوفًا من الاختلاف، ليبدو قريب الشبه من الشخصية الاعتمادية.
التشاؤم
إن كان الماضي محبطًا والحاضر سيئًا من وجهة نظر مريض اضطراب الشخصية الاكتئابية، فإنه يتوقع أن يكون المستقبل أسوأ حالًا، لذا يبدو فاقدًا للأمل في حدوث أي متغيرات إيجابية في الفترات القادمة.
أفكار تتردد داخل عقل الشخصية الاكتئابية
يبدو اكتشاف معاناة شخص ما من اضطراب الشخصية الاكتئابية أكثر سهولة، إن كانت بعض الأفكار السوداء هي التي تدور في رأسه أغلب الوقت، حيث تتلخص في عبارات يرددها داخليًا دون أن يشعر أحيانًا، مثل:
- “أنا مصدوم دومًا من نفسي، ومتشائم تجاه المستقبل وردود فعل الآخرين”.
- “لا أرى أن نشر الطاقة الإيجابية يعتبر من المسؤوليات الموكلة لي”.
- “إن شاءت الظروف أن أصبح في موضع المسؤولية، فإنني أوجه النقد اللاذع للتابعين”.
- “لا يمكنني توقع سير الأمور بالشكل الصحيح، حتى إن تحقق ذلك مرارًا وتكرارًا من قبل”.
- “أعجز عن الاستمتاع بأي شيء خارج نطاق العمل”.
- “ما هي الفائدة من النظر للحياة من الجانب المشرق؟!”.
- “أنا أؤمن بالأشياء الجيدة فقط إن رأيتها بعيني”.
- “تبدو الأخبار السيئة مطمئنة ومثيرة لي، نظرًا لأنها تعبر عن الواقع بصدق”.
- “قد يتوقع مني البشر الكثير من الأمور الإيجابية، فيما يمكنني توقع الأسوأ منهم فحسب”.
- “حياتي هي عبارة عن سلسلة من الفشل، أشعر بالعجز أمام الأمور الخارجة عن سيطرتي”.
- “يجب أن أفكر جيدًا قبل تنفيذ أي خطوة، ولا أخاطر أو أترك الأمور للقدر”.
لماذا يعاني البعض من اضطراب الشخصية الاكتئابية؟
لم ينجح الخبراء حتى الآن في تحديد عامل معين وراء معاناة البعض من اضطراب الشخصية الاكتئابية، إذ يمكن للأزمة التي تنفجر في مراحل البلوغ المبكرة، أن تتحفز جراء مواجهة صدمات نفسية قوية في مرحلة الطفولة أو المراهقة، كأن يفقد المريض أحد الأبوين أو يتعرض للإيذاء النفسي من جانبهما.
من الوارد أيضًا أن ينشأ اضطراب الشخصية الاكتئابية في عقلية المريض، بسبب العوامل الوراثية فحسب، إذ تؤدي معاناة أحد أفراد العائلة من الاضطراب نفسه أو من أزمات نفسية أخرى، إلى زيادة فرص إصابة الأجيال اللاحقة بهذا الاضطراب النفسي المؤسف.
لا يمكن تجاهل دور السلوكيات التربوية في تحديد فرص الإصابة باضطراب الشخصية الاكتئابية، إذ يؤدي زرع الأفكار التشاؤمية بقصد أو دون قصد من جانب الأبوين في ذهن الطفل الصغير، إلى اعتياده النظر للأمور الحياتية من زاوية شديدة القتامة، ليصبح أكثر عرضة للمعاناة من الاضطراب المذكور.
علاج اضطراب الشخصية الاكتئابية
تبدو خطوات علاج اضطراب الشخصية الاكتئابية شبيهة بطرق علاج الأزمات النفسية الأخرى، مع الوضع في الاعتبار أن مهمة القضاء على الاضطراب المذكور تبدو أصعب، باعتباره أكثر توغلًا في السمات الشخصية.
زيارة الطبيب النفسي
هي الخطوة الأولى والأكثر أهمية، والتي تساعد المريض على فهم طبيعة أزمته، بعد أن تعطي للطبيب فرصة التأكد من نوع المرض، وإن كان بالفعل هو اضطراب الشخصية الاكتئابية أو مرض الاكتئاب التقليدي أو ربما مرض نفسي آخر.
الخضوع لجلسات العلاج المعرفي السلوكي
هي واحدة من الجلسات النفسية الأكثر شهرة، والتي يمكنها مداواة الجروح النفسية لأغلب المرضى، والسر في أنها تفضح أمام المريض سلوكياته السلبية وأفكاره السوداوية، المؤثرة بالسلب على قراراته وأحكامه، قبل أن تمنحه فرصة استبدالها بوسائل إيجابية تساهم في علاجه.
حضور جلسات العلاج النفسي التحليلي
بينما ينجح العلاج النفسي التحليلي أو الديناميكي، في الكشف عن الجزء غير الواعي من عقل المريض؛ فإنه يقلل كثيرًا من مشاعر القلق والتوتر لديه، كما أنه يوضح الرؤية بخصوص المواقف القديمة والسلوكيات التي مضت منذ سنوات طويلة، ليعطي لها معنى أكثر إيجابية، ويحسن من نظرة المريض تجاه القادم.
الحصول على الأدوية العلاجية
هو خيار آخر يمكن للمريض الاستفادة منه، فبالرغم من أن الأدوية العلاجية لا تصلح لمداواة اضطراب الشخصية الاكتئابية بصورة مثالية، إلا أنها تبدو مفيدة له على صعيد تقليل أعراض التوتر والقلق المصاحبة لطبيعته الاكتئابية، ما يجعل طريق الشفاء أقصر ولو بدرجة ليست كاملة.
في الختام، يبقى شد أزر مريض اضطراب الشخصية الاكتئابية بالدعم النفسي، أو من خلال تعويده على رؤية الأمور من منظور أكثر إيجابية مطلوبًا، إلا أن أفضل ما يمكن تقديمه لمساعدة الشخصية الاكتئابية، هو تحفيزها على العلاج عبر زيارة الطبيب النفسي، لتصبح السيطرة على حالته مسألة وقت.