تعود معرفة العالم اضطراب الشخصية التجنبية لبدايات القرن الـ20، حينما توّصل الطبيب النفسي السويسري «أوغين بلولر» إلى وصف دقيق لأعراض هذا الاضطراب الشخصي والتي سردها بالتفصيل في كتابه «جماعات الفُصام»، لكن دون أن يمنحه اسمًا محددًا.
ما هو اضطراب الشخصية التجنبية؟
اضطراب الشخصية التجنبية هو أحد اضطرابات الشخصية التي تم الاعتراف بها كمرض نفسي في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، وتظهر على المصابين بذلك الاضطرابات علامات واضحة من القلق الاجتماعي، والشعور بانعدام الثقة، والحساسية البالغة تجاه النقد.
يعاني المصابون به من الوحدة، نظرًا لعدم كفاءتهم اجتماعيًا، وشعورهم الدائم بأنهم ليسوا جذابين، أو لخوفهم الشديد من أن يكونوا محل سخرية أو انتقاد، بالتالي يتجنّبون التفاعل مع المجتمع، خاصةً أثناء مرحلة المراهقة أو البلوغ.
لا تتوقف الآثار السلبية لذلك الاضطراب على الخجل من المشاركة في التجمّعات أو الابتعاد عن المواقف المُحرجة، بل تصل أحيانًا إلى مشكلة حقيقية في القدرة على التواصل مع الآخرين، والحفاظ على العلاقات، ويُعتقد أن نحو 1% من سكان العالم يعانون اضطراب الشخصية الانطوائية بالوقت الحالي.
أعراض اضطراب الشخصية التجنبية
طبقًا للتعريف السائد؛ المصابون بهذا الاضطراب ينشغلون عادةً بوجهة نظر الآخرين فيهم، وخاصةً عيوبهم، بالتالي لا يحبذّوا إهدار طاقاتهم في تكوين علاقات اجتماعية إلا إذا تأكدوا أن الآخر لن يقوم بنبذهم أو انتقادهم، ومن هذا المنطلق يمكننا التوصُّل لأبرز الأعراض التي يمكن من خلالها التعرُّف على صاحب الشخصية التجنبية، وهي:
- فرض العزلة الاجتماعية على أنفسهم.
- عدم تقدير الذات ونقدها الدائم.
- الشك الدائم في دوافع الآخرين تجاههم.
- الفشل في العلاقات العاطفية.
- الشعور بأنهم أقل شأنًا من الآخرين.
- استخدام الخيال كحيلة للهروب من الواقع.
كيف يتم تشخيص المصاب باضطراب الشخصية التجنبية؟
بالإضافة إلى الأعراض أعلاه، استقرّت منظمة الصحة العالمية على أن المصاب يُظهر على الأقل 4 من العلامات التالية كي يتم تشخصيه مصابًا بهذا الاضطراب الشخصي.
- مشاعر مستمرة من القلق والتوتر.
- اعتقاد -زائف- بأنه ليس ذا كفاءة اجتماعية، وليس جذابًا.
- الوقوف كثيرًا عند المواقف التي تعرّض خلالها للنقد أو الإحراج.
- صعوبة في الارتباط بالآخرين عاطفيًا، باستثناء قلة قليلة يثق بهم.
- وضع إطار قاسٍ لتعاملاتهم مع الآخرين لرغبتهم في عدم التعرّض للنقد.
- تجنُّب التجمعات أو الانخراط في النشاطات الاجتماعية المختلفة.
- الحساسية الشديدة تجاه الانتقادات وإن كانت بناءةً.
أسباب اضطراب الشخصية التجنبية
حقيقةً لم يتوصل علم النفس لسبب مباشر للإصابة باضطراب الشخصية التجنبية، لكن فضلًا عن ذلك يُعتقد أنه خليط من الأسباب الوراثية الاجتماعية قد تؤدي إلى الإصابة به.
الوراثة
في أحيانٍ كثيرة ينتقل اضطراب الشخصية التجنبية بين أفراد الأسرة الواحدة بشكل جعل علماء النفس يعتقدون بأنه شيء وراثي، ينتقل من جيل لآخر بفعل الجينات الوراثية.
البيئة المحيطة
بينما تعد البيئة المحيطة بالفرد المصاب هي العامل الأكثر ترجيحًا كعامل مؤثر في الإصابة بـ اضطراب الشخصية التجنبية، حيث تحفز طريقة التعامل مع الإنسان في فترة الطفولة من قبل المحيطين به هذا الاضطراب.
ويحدث ذلك عبر تجاهل مشاعره، التدخل المباشر في قراراته الشخصية، أو لومه بشكل مستمر على أخطائه، وحتى شعوره الشخصي بالرفض من أبويه؛ كل هذه الأمور تعمل معًا كمحفز، يجعل الفرد لا يمتلك ثقة كافية بنفسه، ويقرر تجنُّب الآخرين حفاظًا على مشاعره.
كيفية التعامل مع الشخص التجنبي
بدايةً يجب التأكد من أن الشخص محل التعامل هو شخصية تجنبية، لأن الأعراض التي يظهرها غالبًا ما تظهر أيضًا على الشخص الانطوائي، لكن الفارق الحقيقي بين هذا وذاك، هو أن الشخص الانطوائي يسعد بوحدته، ولا يكترث بآراء الآخرين، على عكس الشخص التجنبي، فمشاعر الوحدة تؤرقه، ويتمنى أن يتخلّص من قلقه تجاه رأي الآخرين به.
بعد التأكد، يُنصح بأن يتم دمج الشخص التجنبي بشكل متدرج داخل المجتمع، عن طريق تعريضه لمواقف اجتماعية تسبب قلقًا عاديًا، ثم أكثر حدّة، وذلك من أجل تدريبه على التخلُّص من قلقه وكيفية التعامل معه، وبشكل عام، وضع علماء النفس قائمة من التعليمات التي ينصح باستخدامها عند التعامل مع أي مصاب باضطراب الشخصية التجنبية.
- المكافأة والمدح عند اجتياز أي موقف اجتماعي بنجاح.
- البعد التام عن النقد تحت أي مسمى.
- التقبُّل وإظهار الحب من أجل تهدئة مخاوفه وقلقه حيال نظرة الآخرين له.
- ترك مساحة كافية للتجنبي -خاصةً الطفل- للتعبير عن رأيه بمنتهى الثقة والحرية.
- التشجيع على الانخراط بشكل كامل في المجتمع.
- احترام المساحة الشخصية الخاصة به، وعدم لعب دور الوصي عليه.
ما هو الفارق ما بين اضطراب الشخصية التجنبية والرهاب الاجتماعي؟
يصاب البعض بالتشتت أيضًا عند تشخيص المصاب باضطراب الشخصية التجنبية، لقرب الأعراض التي يظهرها من تلك التي يظهرها من يعاني الرهاب الاجتماعي، لكن الفارق الجوهري هنا، هو أن الأشخاص الذين يعانون من حالة الرهاب الاجتماعي يعرفون أنهم يمتلكون هواجس لا منطقية.
بينما يعتقد أصحاب الشخصية التجنبية أنهم بالفعل أقل شأنًا من غيرهم، فبالتالي ينتابهم شعور بأن الحط من شأنهم وانتقادهم الدائم شيء مستحق، وليس مجرّد هلاوس بعقولهم وحسب.
كيف يمكن علاج اضطراب الشخصية التجنبية؟
مبدئيًا يجب أن تُدرك أن المصابين بهذا الاضطراب عادةً ما يلجؤون للعلاج بغرض التخلُّص من الأعراض الجانبية المصاحبة للاضطراب مثل القلق والاكتئاب، وبمجرد أن تزول هذه الأعراض، في الغالب سيتوقفون عن استكمال رحلة العلاج.
بالتالي، علاج الشخصية التجنبية ربما أصعب من غيرها، لكن على الرغم من ذلك تظل إمكانية العلاج قائمة، وتتضمن العلاج النفسي والعلاج بالدواء.
العلاج النفسي
ينقسم علاج اضطراب الشخصية التجنبية النفسي إلى 3 أقسام رئيسية وهي:
- العلاج السلوكي المعرفي: حيث يعمل الطبيب النفسي على تدريب المصاب على تغيير أنماط تفكره، وتدريبه على المواقف الاجتماعية المختلفة.
- العلاج النفسي الديناميكي: يوضح خلاله الطبيب للمصاب مدى تأثير الصراعات والآلام التي مّر بها بالسابق على الأعراض التي يشعر بها حاليًا.
- العلاج المُخطط: والهدف منه تحسين رؤية المصاب لحياته اليومية، واكتساب نظرة مغايرة للواقع الذي يعيشه.
العلاج الدوائي
لا توجد عقاقير بعينها متخصصة في علاج اضطراب الشخصية التجنبية، لكن في بعض الأحيان يتم وصف بعض الأدوية التي تساعد في تهدئة وطأة بعض الأعراض المصاحبة للاضطراب مثل مضادات الاكتئاب ومضادات القلق.
في النهاية تتمحور أزمة المصاب باضطراب الشخصية التجنبية حول افتقاده للثقة، فإن تم حل هذه المشكلة يمكنه عندئذ الانخراط في المجتمع دون أن تنتابه أي من أعراض القلق والتوّتر.