يُعتبر البحتري أحد أشهر الشعراء العرب في العصر العباسي الثاني، وبما أن الأدب والشعر مرآة المجتمع، فقد كان شعر البُحتري انعكاسا لأوجه الحياة المختلفة في ذلك العصر.
ويعرف شعر البحتري باسم “سلاسل الذهب”، وهو أحد ثلاثة كانوا الأشهر من أبناء عصرهم، وهم المتنبي وأبو تمام وتلميذه البحتري.
نشأ البحتري بمنبج (منطقة بسوريا تتبع محافظة حلب الآن). وقد ظهرت موهبته الشعرية منذ صغره، ثم انتقل إلى حمص ليعرض شعره على أبي تمام، الذي وجهه وأرشده إلى ما يجب أن يتبعه في الشعر، ثم رحل إلى بغداد عاصمة الدولة فكان شاعرا في بلاط الخلفاء مثل: المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز بن المتوكل، كما كانت له علاقات وثيقة بكبار الدولة العباسية من وزراء، وكذلك الأمراء، وقادة الجيوش.
ظل طيلة حياته يحن إلى بلدته وبقي يزورها حتى وفاته. ألف ديوانا ضخما، معظمه في المديح والقليل منه في الرثاء والهجاء، وله أيضا العديد من القصائد في الفخر، والعتاب، والاعتذار والحكمة، والغزل.
من هو البحتري؟
اسمه كما ذكر لنا ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان مج 5) هو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى بن عبيد بن شملال بن جابر بن سلمة بن مسهر بن الحارث بن خشيم بن خشم بن جدي بن تدول بن يدول بن بحتر وكنيته أبو عبادة في منطقة منبج، وأبو الحسن في بغداد، غلب عليه لقب البُحتري.
وقد أجمع الرواة أنه شاعر عربي الأصل وينتمي إلى قبيلة بحتر من طيء (من قبائل اليمن)، ولد ونشأ في إحدى قري منطقة منبج سنة 204هـ، الذي تعلم فيها اللغة والنحو وحفظ القرآن الكريم، وتعلم الفقه، والحديث، وحفظ العديد من الأشعار، وسرعان ما بدأ في نظم الشعر، وفي صباه تردد على حلب، وهناك تعرف على علوة بنت زريقة الحلبية التي وقع في حبها وذكرها في شعره، ولم تذكر المصادر التاريخية الكثير عن حياة البحتري الشخصية.
قصة صعود البُحتري
قابل البُحتري في رحلته إلى حمص شيخ الشعراء وكبيرهم أبا تمام، وقد كان الشعراء يقصدون أبا تمام طلبا لاعترافه بهم ونصحه، فصحبه وأخذ عنه طريقته في نظم الشعر وتعلم منه الكثير، وظل ملازما له يترسم خطاه حتى علا نجم البُحتري.
ثم ارتحل إلى العراق مع أبي تمام، وبعد فترة غادر أبو تمام بغداد ذاهبا إلى الموصل، ثم توفي سنة 231 هـ، بعدها علا نجم تلميذه البُحتري، واتصل ببلاط المتوكل وحدثت فتنة كبيرة قُتل على إثرها المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان سنة 247 هـ.
ولما اعتلى المنتصر بن المتوكل العرش غادر البُحتري العراق متجها إلى الحجاز ليؤدي فريضة الحج، ولكنه عاد إلى العراق ليمدح الخليفة المنتصر، وقيل إنه مدح المنتصر خوفا من بطشه، ثم قرر أن يقوم بمجموعة من الرحلات زار فيها المدائن، ثم سامراء، وبعد أن تقلد المعتمد الحكم رجع إلى العراق، وقد أخذت هذه الأسفار الكثير من السنين، وأحس بالحنين إلى بلده فقرر الرحيل إلى مسقط رأسه وهو في الثمانينات من عمره.
وفاء البُحتري لأستاذه
حفظ البُحتري لأبي تمام حق الأستاذية ونصيحته وهو يخطو أولى خطواته في عالم الشعر، فلما قيل للبُحتري: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام، فقال: والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام، والله ما أكلت الخبز إلا به، ولكني والله تابع له آخذ منه لا يؤذيه نسيمي يركد عن هوائه أرضي تنخفض عند سمائه، وكان يقول: إن جيد أبي تمام أجود من جيدي، ورديئي أقوى من رديء أبي تمام.
شعره
اتخذ البُحتري نفس نهج أبي تمام في نظم الشعر، وجاء شعر البُحتري سهلا، رشيق العبارة، واضح الصورة، قوي النسيج، فصيحا مطربا عذبا فكان فريدا بين شعراء عصره، وكان مصورا بارعا، ومن أشهر قصائده تلك التي يصف فيها إيوان كسرى والربيع، قال عنه أبو فرج الأصفهاني في (كتابه الأغاني): حسن المذهب، نقي الكلام، مطبوعا، كان مشايخنا الكرام يختمون به الشعراء، وله تصرف حسن في ضروب الشعر.
ومن أشعاره:
يَكادُ عاذِلُنا في الحُبِّ يُغرينا *** فَما لَجاجُكَ في لَومِ المُحِبّينا
نُلحي عَلى الوَجدِ مِن ظُلمٍ فَدَيدَنُنا *** وَجدٌ نُعانيهِ أَو لاحٍ يُعَنّينا
إِذا زَرودُ دَنَت مِنّا صَرائِمُها *** فَلا مَحالَةَ مِن زَورٍ يُواقينا
بِتنا جُنوحاً عَلى كُثبِ اللِوى فَأَبى *** خَيالُ ظَمياءَ إِلّا أَن يُحَيِّينا
وفاته
ارتحل البُحتري إلى العديد من البلدان، وقد رجع إلى العراق مرة أخرى حتى أدركه الملل، وتقدم في السن فخرج قاصدا الشام وذهب إلى مسقط رأسه، وأقام هناك حتى أدركته الوفاة في بلده منبج سنة عام 284 هـ 897 م.