في أواسط القرن الثامن الميلادي، ولد أحد أشهر الأدباء في التاريخ، والذي عرف بين الجميع بلقب ربما يكشف عن ملامح وجهه، إنه شهيد الكتب أبو عثمان عمرو بن بحر، أو كما يطلق عليه منذ قديم الأزل، الجاحظ.
حياة الجاحظ
ولد أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي الكناني البصري أو الجاحظ، في فترة يقال إنها بين أعوام 159هـ و163هـ، أي بعد تجاوز منتصف القرن الثامن الميلادي، فيما نشأ وتربى في مدينة البصرة.
لم ينشأ الجاحظ في أجواء مثالية تماما، بل على العكس من ذلك تربى وسط الفقر المدقع، الذي ربما واجهه الأديب منذ الصغر بالتهكم والسخرية، تماما مثلما واجه دمامة وجهه في أعين الآخرين.
عمل الجاحظ في سن صغير كبائع للأسماك والخبز في أحد أسواق مدينة البصرة، إلا أنه كان يستغل أوقات الفراغ في الذهاب إلى مربد البصرة، ليجالس الأدباء والشعراء، ويستلهم الخبرات من كتابات ابن المقفع ومن نقاشاته مع سلمويه، علاوة على التعلم من الأصمعي وأبي عبيدة وكذلك إبراهيم بن سيار.
تمتع الجاحظ بنهم شديد تجاه التعلم، وخاصة تعلم اللغة العربية بما تشمل من الأدب والبلاغة والنحو، لذا صار يزيد من خبراته بمرور الوقت، حتى بدأت كتاباته في الظهور واحدة تلو الأخرى، لتكتسب شعبية واضحة بين مؤلفات العصر العباسي.
لماذا سمي الجاحظ بهذا الاسم؟
عرف عثمان عمرو بن بحر باسم الجاحظ منذ الصغر بهذا اللقب العجيب، نظرا للجحوظ الواضح الذي بدا دائما على عينيه، كما ظهرت بعض النتوءات الغريبة في حدقة العين لديه، ما أثرت على شكله.
واجه الجاحظ دمامة وجهه في نظر المحيطين به، بخفة روح ملحوظة، جعلته محبوبا بين البشر من حوله، وخاصة مع ظهور كتاباته والتي مهما كانت شديدة الجدية في بعض الأحيان، فإنها كانت تتضمن بعض الأجزاء الساخرة والمتهكمة على الأوضاع العامة.
من مؤلفات الجاحظ
تتعدد المؤلفات التي ظهرت على يد الأديب العباسي الأسطوري الجاحظ، حيث تخطت كتب الجاحظ حاجز الـ350 كتابا، بفضل غزارة إنتاجه وشدة اهتمامه بالاطلاع الدائم، إلا أن كتاب الحيوان يعد من أشهر إبداعاته، وهو الذي يناقش من خلاله صفات الحيوانات المختلفة، علاوة على الحديث عن سمات العرب مع ذكر بعض الأشعار.
يعتبر كتاب البخلاء أيضا من أبرز أعمال الجاحظ التي لفتت انتباه القراء في هذا الوقت، نظرا لأنه كان يناقش بطريقة شديدة الاختلاف سمات الأشخاص البخلاء، وكيفية تعاملهم مع المواقف المتنوعة، ولكن بأسلوب ساخر اشتهر به الجاحظ في الأغلبية العظمى من كتاباته.
كذلك نجد كتاب المحاسن والأضداد، والذي يكشف كما يوضح اسمه عن المحاسن والمساوئ في كل شيء، مع الاهتمام بطبائع البشر التي تبدو محيرة في كثير من الأحيان، نظرا لأنها تجمع ما بين الخير والشر.
يعد كتاب التاج في أخلاق الملوك أيضا من أهم أعمال الجاحظ، حيث ناقش فيه سمات عدد من الملوك، مركزا على ملوك بعينها مثل ملوك الفرس، إضافة إلى التحدث عن بعض الخلفاء الأمويين والعباسيين.
قام الجاحظ أيضا بجمع أشعار ومؤلفات الأدباء الآخرين في كتب قيمة، من بينها كتاب الحنين إلى الوطن الذي تضمن أشعار الأدباء الذين فارقوا أوطانهم، كما اشتهر للجاحظ كتاب البيان والتبيين المهتم بالبلاغة والأدب، وكتاب الرسائل الذي ركز على الدين والعقائد في بعض الأجزاء.
أسلوب الجاحظ
تمتعت كتابات الجاحظ كما سبق وأن ذكرنا بأسلوب ساخر يميل إلى التهكم لكنه لا يقلل من قيمة ما يروى، حيث برع الجاحظ في التعبير عن أفكاره عبر عرضها بأسلوب قصصي لا يمل منه القارئ أبدا.
فاز أسلوب الجاحظ الكتابي بمحبة العلماء والأدباء في عصره وفي العصور الأخرى، ما جعلهم يتغزلون فيه بدرجة تكشف عن ملامحه، حيث قال عنه أبو حيان إنه الكاتب الذي جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، كما أكد الخطيب البغدادي على هذا المعنى بالإشارة إلى مدى تبحر الجاحظ في الكلام مع ضبط الحدود.
وفاة الجاحظ
عاش الجاحظ حياة طويلة تخطت الـ90 سنة، حيث أصيب بأمراض الشيخوخة التي أبعدته عن البشر في الأعوام الأخيرة من حياته، مثل مرض الفالج والنقرس.
في سنة 255هـ والتي توافق عام 868م، رحل أبو عثمان عمر بن بحر المعروف بالجاحظ عن عالمنا الكبير، وتحديدا عن عالم الأدب والشعر والإبداع، نتيجة سقوط بعض الكتب على جسده الضعيف كما روي، ليطلق البعض عليه منذ ذلك الحين لقب شهيد الكتب، ويسدل الستار على حياة أحد أشهر وأعظم الأدباء ليس في العصر العباسي فقط بل في العصور كافة.