هل تعاني أحيانًا من سيطرة الشكوك على ذهنك بدرجة مزعجة؟ ربما يبدو هذا هو الوضع الدائم وغير المؤقت بالنسبة إلى مريض الفصام الباروني، والذي يبقى حبيس سجن الأوهام والظنون السيئة، فما هي تفاصيل هذا المرض العقلي الغامض؟
ما هو الفصام الباروني؟
تتعدد الأسماء التي تصف الفصام الباروني، حيث يعرف هذا النوع أو لنقل العرض من الشيزوفرينيا باسم الفصام الزوراني والفصام الارتيابي وكذلك الفصام الاضطهادي أو البارانوي، ليكشف ببساطة عن حالة الشك الدائمة لضحية تلك الأزمة المزمنة بكل أسف.
تعامل الخبراء والباحثون مع الفصام الباروني باعتباره النوع الأكثر شيوعًا بين أنواع الفصام المختلفة، حتى عام 2013 حين صدرت النسخة الخامسة من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، والتي اعتبرت البارونية من الأعراض وليست من أنواع المرض والتي تم حذفها كاملة لعدم جدواها.
في كل الأحوال، وسواء بدا تعدد أنواع مرض الفصام مفيدًا أو لا، أو تم اعتماد الفصام الباروني الاضطهادي كأحد الأنواع أو حتى الأعراض، فإنه يؤثر بالسلب على حياة ضحيته، الذي يصبح مقيدًا بأفكار غير طبيعية وهلاوس وأوهام خرافية، تؤثر على سلوكياته التي يراها الجميع بعيدة كل البعد عن الواقع والمنطق.
أعراض الفصام الباروني الاضطهادي
تتنوع أعراض الفصام البارانوي، والتي تعكر صفو حياته وكذلك حياة الأشخاص المقربين منه، كونهم يصبحون من ضحاياه عاجلًا أم آجلًا، حيث تنقسم تلك الأعراض إلى:
أعراض ذهانية
هي تلك الأعراض التي يشعر بها المريض دون أن ينجرف البشر الآخرون في عواقبها، لتتمثل في:
الهلاوس
هي مزيج مخيف من الهلاوس السمعية والبصرية، أو حتى المتعلقة بشم روائح أو تذوق أشياء، ليس لها أي صلة بالواقع، فيما تزداد الأزمة سوءا، حينما تتمثل الهلاوس السمعية في عبارات محبطة أو تحفيز على إتمام سلوكيات خاطئة تضر بالمريض في نهاية المطاف.
التفكير غير المنظم
تبدو أفكار مريض الفصام الباروني الاضطهادي شديدة التشابك، فبداية من ابتعادها عن المنطق بمسافات غير عادية، ووصولًا إلى كونها غير مرتبة، ونهاية باحتمالية اتخاذ القرارات الخاطئة بسببها، يصبح التفكير المشتت للمريض من عوامل زيادة حياته سوءا، على صعيد العمل أو الدراسة أو العلاقات.
صعوبات الكلام
يؤدي انشغال عقل مريض الفصام الباروني بأفكار غير منظمة، تحيط بها الشكوك والظنون وكذلك الأوهام الهلاوس، إلى مواجهته دون إرادته لبعض من الصعوبات عند التحدث، والتي قد تتمثل في غياب المنطقية عن الحديث أو عدم نطق الكلمات بالشكل الصحيح وإعادة الكلمات مرة تلو الأخرى وربما الانتقال من موضوع لآخر بشكل مفاجئ، ودون وجود أي ترابط يجمع بينهما.
برودة المشاعر
يبدو التعبير عن مشاعر مريض الفصام الباروني من المهام غير السهلة عليه، حيث يتسم دومًا بالبرودة الشديدة التي تنعكس على مشاعره تجاه النفس والآخرين، لذا يبقى ذا وجه خالٍ من التعبيرات، وكأنه شخص شبه ميت من الداخل.
عدم الانتباه للمظهر
يفقد مريض الفصام بشكل عام، والفصام الباروني الاضطهادي بشكل خاص، شغفه بالنجاح وتحقيق الإنجازات كما سبق وأن ذكرنا، فيما يعاني في الأصل من مشكلات تتعلق بالتفكير والمنطق، لذا يصبح من الطبيعي أن يؤدي كل ذلك إلى عدم اهتمامه بمظهره أو بنظافته أو حتى بحالته الصحية الجسدية.
أعراض اضطهادية
هي النوع الآخر من الأعراض الخاصة بمرض الفصام الباروني، والتي تبدو مغلفة بالشكوك لتشمل وجود أشخاص آخرين وربما تؤثر فيهم، فيما تظهر في الصور التالية:
الشك في شريك الحياة
المعاناة من الشكوك الدائمة في الطرف الآخر من العلاقة العاطفية أو الزوجية، حيث لا يجد مريض هذا الشكل من الفصام أي أزمة في التربص بهذا الطرف وبناء الاستنتاجات التي تدل على خيانته، وحتى إن كانت غير منطقية بأي درجة من الدرجات.
المعاناة من عقدة الاضطهاد
كذلك يعاني مريض الفصام الباروني من الإحساس بالاضطهاد طوال الوقت، حيث يبدو ذلك ملحوظًا في أماكن العمل أو الدراسة، حينما يصبح متشككًا في سلوكيات الآخرين التقليدية، ليفسر كلماتهم البريئة أو تصرفاتهم التلقائية وكأنها تهدف إلى اغتياله معنويًا أو إلى تهديده بأسوأ الأفعال.
التعرض للتهديد
بالطبع يجد ضحية الفصام من هذا النوع نفسه في مرحلة من المراحل، مهددًا بالقتل دون سبب واضح، حيث يتملكه الخوف من الآخر، ليعتقد في كثير من الأحيان أنه يتعرض للمراقبة أو أن شخصا ما يتبعه بصورة دائمة، قبل أن يصل الأمر إلى حد الظن في أن أفكاره تسرق منه أو تختفي بفعل فاعل.
حمل الضغائن بسهولة
تؤدي الوساوس المسيطرة على عقل ضحية الفصام الباروني الاضطهادي، وكذلك عدم منطقية أفكاره وسهولة وقوعه في فخ الشك، إلى حمله للضغائن بشكل سريع للغاية، حيث تكفيه بعض الكلمات أو الإشارات البريئة التي يصدرها الطرف الآخر، حتى يصبح من كارهيه اعتقادًا بأنه يأمل الإضرار به، ما يعتبر وهمًا من ضمن سيل من الأوهام المتحكمة في عقله.
تلقي رسائل بعيدة المدى
لا يكتفي مريض هذا الشكل من أشكال الفصام بإصابة الأشخاص المحيطين به بسهام شكوكه الجنونية، أو بحمل الضغائن ومشاعر الكره تجاه الزملاء في العمل أو الدراسة، بل يعاني من درجة شديدة من التشوش، تدفعه إلى الاعتقاد بأنه يتلقى التهديدات عبر شاشات التلفاز أو من خلال محطات الراديو، فيما تتمثل تلك الاعتقادات الوهمية في بعض الأحيان في تلقيه رسائل غامضة عبر المنصات المذكورة بهدف دفعه للقيام ببعض السلوكيات.
أعراض اكتئابية
هي أحد أشكال الأعراض التي يعاني منها مريض الفصام الاضطهادي، والتي تؤثر على مزاجه لتتلخص في:
الغضب والتوتر
يصبح مريض الفصام الباروني حبيسًا لمشاعر سلبية شديدة التنوع، مثل الغضب الشديد والقلق والتوتر الدائمين، علاوة على الوقوع تحت سيطرة الحيرة طوال فترات الوقت، والتي تمتزج بالتشتت الذهني.
صعوبات النوم
إن كانت الأمراض النفسية والعقلية الأقل خطورة، تتسبب في كثير من الأحيان في إصابة ضحاياها بالأرق الشديد وصعوبات النوم، فإن الفصام الباروني يستهلك طاقة مريضه في أفكار محبطة مغلفة بمشاعر الاضطهاد، حتى تصيب النوم لديه بالارتباك وعدم الانتظام، وهو أمر يؤثر سلبًا على الحالة النفسية بالتبعية.
غياب الحماس
إن كان مريض الفصام الباروني شغوفًا ببعض النشاطات والأعمال قبل إصابته بالأزمة أو في المراحل الأولى من مشكلته العقلية المعقدة، فإن تمكن هذا المرض الخطير منه يعني وصول درجات حماسه إلى معدلات قليلة للغاية، ليفسر ذلك سلوكيات ضحايا الفصام الزوراني غير العابئة بتحقيق الإنجازات.
الانعزال
يجد مريض الفصام الباروني الاضطهادي صعوبة شديدة في فهم الآخرين، وفي التجاوب مع أفكارهم تجاه أمور الحياة المختلفة، لذا تؤدي تلك الأزمة في التواصل إلى اتخاذه التدريجي لقرار الانعزال، والذي لا يسلم منه الأشخاص المقربون في كثير من الحالات، كما ينطبق على الأنشطة المحببة إليه والتي يبتعد عنها أيضًا بصورة تامة.
التفكير في الانتحار
هو أسوأ ما قد يصل إليه مريض الفصام الباروني الاضطهادي، حيث يبدأ الأمر ببعض الأفكار الانتحارية التي تسيطر على عقله غير المنظم، قبل أن يسعى إلى بدء تنفيذ تلك الأفكار على أرض الواقع، ما يكشف هنا عن ضرورة انتباه الأشخاص المقربين منه لحالته النفسية ولتحركاته وخطواته، في ظل ارتفاع نسب الانتحار بين ضحايا هذا المرض.
عوامل الإصابة بالفصام الباروني
لا تختلف عوامل إصابة البعض بمرض الفصام الباروني الاضطهادي عن تلك الخاصة بأنواع أو أشكال المرض الأخرى، من حيث الغموض، والذي يسعى الباحثون إلى كشفه عبر الاستنتاجات التالية والخاصة بأسباب الأزمة:
- سوء التغذية والذي قد يعاني منه المريض منذ الولادة أو حتى قبل ذلك في مراحل تطوره كجنين.
- التعرض في عمر صغير لبعض الفيروسات المؤثرة على صحته العقلية والذهنية.
- التاريخ الطبي للأسرة، والذي وإن كشف عن معاناة أحد الأبوين من الفصام، فإنه يزيد فرص إصابة الابن بالمرض نفسه.
- أزمات الدماغ وتكوينه أو ارتباك إفرازات النواقل العصبية وعلى رأسها كل من الدوبامين والسيروتونين.
- التعرض للإيذاء أو للصدمات النفسية القاسية أو التوتر الشديد في مراحل مبكرة في مقدمتها فترة الطفولة.
- إدمان المواد المخدرة والتي إن كانت من عوامل الإصابة بالفصام أو حتى كانت من نتائج المرض، فإنها تتعارض مع العلاج.
تشخيص الفصام الباروني
يتطلب تشخيص المريض بالفصام الباروني، قيام الطبيب المختص باتخاذ بعض الخطوات المرتبة، للتأكد من عدم حدوث أي خطأ، حيث تتلخص تلك الخطوات في:
- الحصول على التاريخ الصحي لكل من المريض وأفراد أسرته، لتحديد فرص الإصابة بالفصام وإن كانت مرتفعة أو العكس.
- إلزام المريض بعدد من الفحوصات والتحاليل التي قد تثبت معاناته من مرض آخر تسبب في ظهور أعراضه.
- ملاحظة أعراض المرض عليه التي تشمل الهلوسة والتوهم وصعوبات الكلام، والتأكد من استمرار ظهورها لفترة لا تقل عن 6 أشهر متواصلة.
هل هناك أمل لعلاج الفصام الباروني؟
لم يتوصل العلماء حتى الآن إلى العلاج الجذري والمؤكد لمرض الفصام الباروني المزمن، مثلما الحال بالنسبة لبقية أشكال الشيزوفرينيا أو الفصام بشكل عام، إلا أن الأطباء يكشفون دومًا عن أهمية مقاومة أعراض الأزمة لتبدأ في التراجع رويدًا رويدًا، ذلك عبر الخطوات التالية:
العلاجات الدوائية
يحتاج مريض الفصام الباروني الاضطهادي إلى استشارة الطبيب المختص، لتحديد الأدوية العلاجية الأنسب لحالته، والتي غالبًا ما تكون مضادات الذهان، مع الوضع في الاعتبار أن تعديلها أو التوقف عن تناولها هو أمر بيد الأطباء فحسب، ومع العلم أيضًا بأن نسبة تصل إلى 30% من مرضى الفصام لم يتجاوبوا بالشكل المطلوب معها.
جلسات العلاج النفسي
تتعدد أنواع الجلسات النفسية العلاجية، التي قد يختار الطبيب المناسب منها للمريض، أو ربما يلجأ إليها جميعًا إن بدا الأمر أكثر إفادة، حيث تشمل العلاج المعرفي السلوكي الذي يعلم ضحية الفصام كيفية الانتباه لأعراض أزمته قبل التعامل معها بذكاء، والعلاج النفسي الداعم صاحب الدور المهم في تخفيف حدة وآثار الأعراض السلبية، إلى جانب جلسات دعم المهارات التي تزيد من ثقة المريض وتؤهله لإتمام بعض الأعمال الوظيفية، لتدفعه إلى الاستمرار على العلاج.
المساندة العائلية
قد لا يدرك الكثيرون أهمية المساندة التي يتلقاها المريض النفسي أو العقلي بشكل عام، ومريض الفصام بشكل خاص، من جانب أفراد أسرته والأصدقاء المقربين، حيث كشفت دراسة أمريكية أجراها الباحثون من جامعة تكساس، عن مدى تجاوب ضحايا الفصام مع العلاج المقدم له بشكل خاص، عبر المحبين والمقربين منهم، لذا يبقى اطلاع أصدقاء وأقارب مريض الفصام الباروني على طبيعة أزمته من أجل تقديم أفضل دعم ممكن، هو أروع ما يمكن القيام به لمساندته.
كيفية تعايش مريض الفصام الباروني مع أزمته
على الرغم من صعوبة وضعية مريض الفصام، إلا أن قيامه ببعض الجهد قد يساعده كثيرًا على تجاوز قدر هائل من محنته، ذلك عبر:
- الاستمرار على الأدوية العلاجية الموصوفة باهتمام، وعدم تجاهلها وإلا زادت أعراض المرض حدة.
- الانتباه للحالة الجسدية والعضوية، عبر اتباع عادات غذائية مفيدة وممارسة الرياضة، لينعكس ذلك على الحالة النفسية والذهنية.
- التحدث مع الطبيب دون أي تردد بشأن الشكوك الخاصة، وحتى إن كانت عن مدى جدوى العلاج.
- الاعتماد على الشخص المقرب من أجل تلقي الدعم في الوقت المناسب، مع إخباره بالخطوة المطلوبة عند التعرض لأي انتكاسة.
- تجنب العادات السيئة التي تشمل تعاطي المواد المخدرة وشرب الكحوليات، كونها تتعارض مع العلاج.
في الختام، يبقى مريض الفصام الباروني الاضطهادي وغيره من أشكال الفصام، ضحية شبه دائمة لأزمة عقلية مزمنة، ما يتطلب دعمه بالشكل اللائق، والتخلي عن اعتقادات شائعة ربطت بين مرض الشيزوفرينيا وبين العنف والأذى بحق الآخرين، دون وجود دليل واحد.