في الواقع بدأ تاريخ صناعة الكتب قبل أن نتعرف من الأساس على ما يمكن تسميته تقليديًا بالـ”كتاب”، حيث إن الفكرة نفسها قديمة قدم التعرف على الكتابة، التي بدأت بالتدوين على الأقراص، الألواح، ثم أوراق البردي، وصولا إلى اختراع الطباعة الذي جعلنا نحتفظ بأفكار وأسرار أجدادنا الذين رحلوا منذ مئات السنين.
ما هو تعريف الكتاب؟
قبل أن نتطرق إلى تاريخ صناعة الكتب بشكل عام، وتعريف الكتاب بشكل أكثر خصوصية، علينا أولًا أن نشير إلى أننا قد نمتلك شعورًا الآن بأن الكتب هي جزء أصيل من الحياة اليومية للإنسان منذ بداية الحياة على هذا الكوكب، ربما لأننا لم نختبر حياة لا توجد بها كتب، لكن الحقيقة أن الحصول على أي كتاب بشكله المتعارف عليه لم يكن أمرًا هينًا على الإطلاق.
يُعرَّف الكتاب الحديث اليوم بأنه عبارة عن عمل مكتوب أو مطبوع يتكون من صفحات مُلصقة أو مُحاكة معًا على طول جانب واحد ومُغلَّفة في أغلفة، ومع ذلك، عبر التاريخ، استخدم الناس مواد مختلفة للكتابة، ويعتبر أولئك الذين يدرسون تاريخ الكتب أن أصولهم تعود إلى المواد القديمة، مثل الألواح والخيزران ولحاء الزان وأوراق البردي، لذلك، سنبدأ بسرد ذلك التاريخ، بكل ما فيه تطورات.
بداية تاريخ صناعة الكتب.. بلاد الرافدين
كان للحضارات المختلفة طرقها الخاصة في الاحتفاظ بالوثائق المكتوبة، بدءًا من بلاد ما بين النهرين (بلاد الرافدين) في حدود العام 3500 قبل الميلاد، حيث اشتهر المستوطنون الأوائل لهذه المنطقة بصنع ألواح طينية رسموا عليها علامات باستخدام أداة نهاية المثلث تسمى “الكالاموس”، والتي كانت أساسًا جذع نبات القصب الذي تم شحذه من أحد طرفيه.
ربما كانت تلك أول خطوة يخطوها الإنسان في الطريق الذي يمكن تسميته بتاريخ صناعة الكتب، حيث كانت تستخدم الكالاموس في الكتابة على الطين -كأقدم طريقة كتابة عرفها الإنسان- والتي عرفت باسم الكتابة المسمارية، وكانت عملية التدوين تختصر في حفر الأشكال على ألواح من الصلصال أو الطين، ثم بعد ذلك يقوم السكان المحليون بتجفيفها باستخدام النار.
وتم العثور على أكثر من 2000 قرص يمثلوا هذه الطريقة في حفظ الكتابات في نينوى (العراق)، ويرجع تاريخ بعضها إلى القرن السابع قبل الميلاد، وكانت الأقراص عبارة عن مكتبة وأرشيف ملوك آشور، مما أعطانا لمحة عن النظام الذي استخدموه لكتبهم، وظلت هذه الطريقة اللوحية مستخدمة حتى القرن التاسع عشر في أجزاء مختلفة من العالم، بما في ذلك تشيلي وألمانيا والفلبين وحتى الصحراء الكبرى.
مصر القديمة.. شكل جديد للكتابة
بالتأكيد لا يمكننا الحديث عن تاريخ صناعة الكتب دون أن نشير إلى الدور العظيم الذي قدمته الحضارة المصرية القديمة للبشرية بذلك الخصوص، بفضل التطور الملحوظ الذي أقحمه المصريون على فكرة الحفر على الألواح، التي يصعب حملها، وتحويلها إلى كتابات على أوراق البردي، الأصغر حجمًا بكل تأكيد.
في مصر، وتقريبًا قبل 3 آلاف عام من الميلاد، استخرج الناس النخاع من سيقان قصب البردى، وقاموا بترطيبه، ثم تجفيفه، وضغطه، وأخيرًا لصقه، حتى يصبح صالحًا للكتابة عليه، كما احتفظوا بأفضل الشرائح التي صنعوها جودة كي تستخدم في الكتابة المقدسة.
ويعتقد أن الكتابة على شرائح البردي كانت الوسيلة التي اخترعها المصريون، تحديدًا الأسرة الأولى، ويعود أول دليل مؤرخ بهذا الشأن إلى ملك الأسرة الخامسة نيفيريكار كاكاي، حوالي عام 2400 قبل الميلاد، وفي ذلك الوقت، كان المصريون القدماء يقومون بلف شرائح نبات البردي في لفيفة، وكان متوسط طولها ما بين 14 إلى 52 قدمًا، وأحيانًا أطول من ذلك، فعلى سبيل المثال؛ تم قياس لفيفة عن تاريخ عهد رمسيس الثالث بأكثر من 40 مترًا.
ومع ذلك، فإن طول ورق البردي الملفوف جعل فتحها وقراءتها عديم الجدوى، كما أن هشاشة أوراق البردي جعلتها أكثر عرضة للتلف، وهذا هو السبب في وصول عدد قليل من هذه اللفائف المكتوبة حاليًا بين أيدينا.
تطور منطقي
ظل تسجيل الكتابات والأفكار ثابتًا عند هذه النقطة لفترة طويلة من الزمن، لكن بحلول الـ500 عام الأخيرة قبل الميلاد، قامت مختلف الحضارات بالإدلاء بدولها، والتأثير بشكل مباشر في تاريخ صناعة الكتب، ولولا هذه المشاركات، التي سنذكرها تباعًا، لما امتلكنا كتبًا على الإطلاق.
اليونان
خلال الفترة ما بين العام 500 و200 قبل الميلاد، تم استخدام جلد الأغنام والماعز لصنع الورق، باعتباره بديلا أكثر ديمومة لأوراق البردي، وهو ما أكده العالم الروماني “فارو” حين أشار إلى أن اختراع الرق (الجلود) في مدينة “برغاموم القديمة” كان بسبب ورق البردي.
ما يجعل الرق مختلفًا عن الجلد هو أن القشرة مجوفة وليست مدبوغة، وهذا هو السبب الحقيقي في هشاشة أوراق البردي، وحساسيتها للتغيرات في الرطوبة التي تجعلها عرضة لأن تفسد عند البلل.
الصين
عند حلول القرن الأول الميلادي، أقدم الصيني تساي لون على صناعة الورق من خلال تجربة مواد مختلفة مثل لحاء نبات التوت، أو القن، أو الخرق القديمة، أو حتى شباك السمك، وربما كان ذلك تطورًا ثوريًا في تاريخ صناعة الكتب، لأنه جعل الأدوات التي يمكن استخدامها للتدوين أكثر انتشارًا وإتاحة.
وتعد كتب جياندو أو جيانس هي أول كتب تم تدوينها بالصين، حيث صُنعت من لفائف من الخيزران المجفف مقسومة بشكل رقيق للغاية ومربوطة مع الحرير أو القنب أو الجلد.
روما
لربما يرجع الفضل للرومان في تقديم أول كتاب بشكله المتعارف عليه حاليًا للبشرية، حيث قاموا بتغليف الصفحات المسماة بالرق (المصنوعة من جلد الحيوانات) بين أغلفة خشبية، والتي يتم فتحها مثل كتبنا اليوم، وكانت تسمى مخطوطات، كما أنهم أضافوا لكتبهم ولأول مرة جدول محتويات وفهرسا، وهو ما لم يكن قد سبقهم إليه أي شعب.
بالطبع كان مجلد المخطوطات أكثر إحكاما وأسهل في الحمل، ويعتقد أن المسيحيين الأوائل استخدموا هذا النوع من الوثائق عند مشاركة الأناجيل في بلاد أجنبية نظرًا لإمكانية الانتقال به من مكان لآخر.
“السوترا الماسية”.. أول كتاب في تاريخ البشرية
من بين كل المؤلفات والمخطوطات التي خطها البشر خلال الفترة من القرن العام 4000 قبل الميلاد كان كتاب واحد يشبه الكتب الذي نمتلكها الآن، وهو كتاب صيني عرف باسم “Diamond Sutra”، وتشير التقديرات إلى أنه طُبع خلال عهد أسرة تانغ، بالقرن الأول الميلادي، باستخدام الطباعة الخشبية، التي اشتهر بها الصينيون.
السوترا تعني القواعد باللغة السنسكريتية التي تم خط هذا الكتاب بها، والذي يعتبر مجموعة من النصوص العميقة التي يقدمها “بوذا” لراهب، وعلى الرغم من اختلاف التأويلات حول هذا النص، إلا أن أحد التفسيرات يرجح أن النص هو دعوة من بوذا لأتباعه من أجل المسارعة في قطع خيوط أوهام الواقع الذي يُحيط بهم، وبالتالي التوصل إلى إدراك كل ما هو حقيقي.
الطباعة.. خطوة نحو الرفاهية
خلال العصور الوسطى، كان الرهبان ينسخون الكتب يدويًا، سطراً بسطر، مما جعل امتلاك كتاب مكلفًا للغاية، بل في الواقع، كان كل كتاب في الأساس عنصرًا فريدًا مصنوع يدويًا، تم تخصيصه بواسطة الناسخ، ومجلد الكتب، والمالك، والرسام، وبمرور الوقت أصبحت المخطوطات تزين بالذهب والفضة، مع إضافة الرسوم التوضيحية، مما يجعلها إضافات رائعة لمجموعة لأي شخص ثري، لكن كل ذلك لم يعالج مشكلة أهم، وهي إهدار الوقت أثناء نسخ الكتب، كما كان نسخ كتاب واحد مكلفًا جدًا ماديًا.
في الصين، تم اختراع أول نوع يمكن حمله من الكتب مصنوع من الخشب بحلول العام 1000 ميلاديًا، ومع ذلك، فإن تعقيد الأحرف الصينية وخصائص نقع الخشب جعل استخدامها يحتاج لعمالة كثيفة، بعد ذلك، في عام 1200 بعد الميلاد، تم اختراع أول كتاب معدني يمكن حمله في كوريا، خلال عهد مملكة كوريو، وأنتج أول كتاب مطبوع بنوع معدني متحرك يسمى “جيكجي”، الذي طُبع عام 1377 ميلاديًا.
في عام 1439، أحدث الألماني جواهنس جوتنبرج ثورة حقيقية في تاريخ صناعة الكتب، حيث نجح في استخدام مهاراته في تشغيل المعادن، ليصمم مطبعة منهجية وموثوقة سمحت بالإنتاج الضخم للكتب، في حين كان أول كتاب تم إنتاجه بكميات كبيرة هو إنجيل جوتنبرج، الذي طُبع عام 1455.
ربما بدأ تاريخ صناعة الكتب بشكلها المتعارف عليه بالفعل عند اللحظة التي نجح فيها جوتنبرج في تصميم مطبعة قادرة على إنتاج عدد كبير من الكتب بتكلفة ومجهود أقل، لكن يجب ألّا ننسى أنه دون محاولات الحفر على الطين، لفائف البردي، أو حتى الكتابة على الرق (الجلود)، لم يكن الألماني ليفكر من الأساس في أن يخترع المطبعة، التي جعلتنا جميعًا الآن نمتلك نسخًا من كتب لا نعرف عن من كتبوها سوى كلماتهم التي بداخلها.