ترندات وتوباكو هي استحضار أدبي لما يدور في فضاء منصات التواصل الاجتماعي من أخبار ومناقشات وحتى نكات، نناقش فيها بشكل أدبي تلك الأمور التي يسميها مستخدمو تلك المنصات “ترند”، فنتناولها في شكل قصص قصيرة لا تحمل انتماء معينا ولا تميل إلى جهة على حساب الأخرى، إنما تنقد الظواهر الشاذة وتدعم الظواهر الإيجابية وتلقي بعض الضوء على أمور أخرى، قد تكون إنسانية أو تراجيدية أو حتى كوميدية لطيفة.
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ
لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ … لَبَّيْكَ لا شَريك لَك لَبَّيْكَ … إنَّ الحَمْدَ والنِعْمَةَ لَكَ والمُلْك … لا شَرِيكَ لك
نداء يمتزج فيه الخشوع بالخضوع، والرهبة بالفرحة، الرجاء بالبكاء، قوى روحانية عظيمة تملأ مخيمات عرفات بالنور والسكينة، ملايين الدعوات تتدفق إلى السماء، ملايين الأيدي المرفوعة والرقاب المشرئبة نحو السماء والملايين من الرؤوس الخاضعة في خجل ووجل تتوسل الرحمن وتبتهل طمعا في عفوه ورضاه، ملايين الألسنة انحلت عنها العقد وراحت تتغنى بالتراتيل والابتهالات حمدا وتكبيرا وتعظيما وتهليلا لصاحب الفضل والمنة، وجوه سمحة يعلوها البشر والفرحة والوجل والخجل والأمل في حضرة الخالق العظيم.
استرقت النظر إلى وجوه يكسوها نور الوقار والقبول، والغبطة تملأ قلبي وعقلي، أتمنى القبول الذي كنت على يقين أنهم نالوه من قبلي، وبين نظرات هنا وهناك، وقع بصري على مجلس لطيف، يدير دفة النقاش به رجلٌ تبدو على وجهه علامات الصلاح، تلك اللحية التي استطالت وامتزج أبيضها بأسودها حتى كاد يكسوه، وتلك البسمة التي علت وجهه وجعلت ملامحه وضاءة بنور الإيمان، حسبتهم يتباحثون في أمور الدين كما هي عادة الجلسات في تلك الأيام المباركة والأماكن المقدسة، فقررت الانضمام إلى هذا الجمع، لعله يصيبني ما أصابهم من نور، وأتجنب في زمرتهم عذاب الثبور.
جلسة على الصعيد الطاهر
فذهبت من فوري أتخطى الرقاب لأكون على مقربة من هذا الرجل الذي تكسوه علامات الإيمان لأنهل من علمه وحديثه، وقد كان لي ما خططت وطمحت، فجلست على مقربة منه ووجدته يقول:
والله يا إخواني إن القلب ليدق ويرق لهذا المشهد المهيب.
تُداعب نسمات هذا اليوم على حره العقل والفؤاد، وتُغازل تلك المشاهد الجميلة العين فتكاد تدمع من فرط الجمال والجلال.
والله يا إخواني إني لما دخلت المسجد الحرام ورأيت برج الساعة المهيب وتلك المباني الشامخة الفارهة وتلك المآذن العالية الشاهقة التي تخطف اللب والفؤاد منذ دخولك طريق أم القرى، بكت عيناي من جمال المنظر، والله إن لنا أن نفخر فتلك هي عمارة البيت التي ذكرها الله عز وجل في قرآنه الحكيم.
عمارة البيت
هنا تعالت الحوقلة والبسملة وتساقطت بضع عبرات تأثرًا بحسن حديث هذا الرجل الفصيح، ولكني لم أستطع أن أقاوم فاستأذنته في التعقيب فسمح لي فقلت:
والله يا أخي إنه لمن دواعي الفخر ما تم تشييده على مر العصور لبناء ما حول المسجد العتيق، ولا أحد ينكر كم بُذل من مال وجهد ووقت من العاملين على هذه المشاريع لجعل أم القرى في أبهى حلة.
ولكن يا أخي ألا تتفق معي أن عمارة البيت إنما تكون بالصلاة والدعاء والخشوع، وتلك العمارة التي تقصدها قد أنكرها الله على مكة من قبل فقد قال سبحانه في كتابه:
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة -١٩)
فحقيق العمارة يا أخي هو الإيمان، ودعني أختلف معك هنا قليلا.
فإني كنت أتمنى أن يدرس العاملون على تطوير تلك المباني ما حول الحرم في شيء مختلف وهو عن صدق ما يحتاجه الحجاج والمعتمرون، فالمرء يقطع المسافات ويبذل الأموال ليأتي هاهنا ويروي ظمأ عينيه بنظرة للبيت العتيق، فنحن المسلمون قلوبنا معلقة بالكعبة المكرمة، ولا يشفي سقم تلك القلوب إلا مطالعة هذا البيت من دون حجاب، كما أني أرى برج الساعة -على عظمته وروعته- في غير محله فأيقونة مكة والإسلام ككل، البيت الحرام، ولا غيره علامة أو راية ترتفع وتعلو.
فكنت أتمنى مع كل تطوير أن ينظر القائمون عليه من منظور ذلك الحاج الفقير الذي أتى ليستنير بنور الكعبة وضيائها، فكيف لو أزيلت تلك المباني من حول الكعبة، وجعلت من حولها درجات تشبه المسارح الرومانية ولكنها تكون أكبر، تتيح لجميع زوار البيت الحرام أن تقرَّ أعينهم برؤيا الكعبة من دون خرسانة أو حجارة تمنعهم، فكر معي يا أخي أنك وعند وصولك طريق أم القرى أو إبراهيم الخليل تستطيع أن ترى الكعبة المشرفة من دون مبانٍ أو مآذن.
البشر والحجر
تفحّصَني الرجل بشدة، وكانت علامات الوقار قد ولت وتلك البسمة قد فلّت، وحل محلها الضيق والنفور، وبكل فتور وهدوء سألني سؤالًا واحدًا تعقيبا على كل ما قلته:
إنت عايز تهد المآذن؟
فقلت بكل هدوء:
إن كان هدمها سيتيح لجموع المسلمين الاستمتاع ببيتهم العظيم من دون حجاب فلا ضير بالتأكيد.
فما كان منه إلا أن قام مندفعًا يبحث عن حذاء وهو يغمغم بصوت عال:
بقا عايز تهد مآذن بيت الله الحرام ياد يا كافر يا ابن دين الـ ***.