هنا باريس، حيث يقع برج إيفل ومتحف اللوفر، هنا الجمال، الأناقة، الشهرة، والأضواء الساطعة تحت سماء المدينة التي لا تخلو من الصخب والضوضاء.. هنا مدينة النور.
ولكن، لا تغرنك هذه المظاهر الخلابة فهناك باريس أخرى تقبع على عمق 20 مترا تحت الأرض، لا يسودها سوى الصمت ورفات الجثث المتآكلة، باريس أخرى تسمى “سراديب الموت” حيث ملايين الجماجم والأشلاء، والتي يحمل كل منها أسراره الخاصة.
سراديب الموتى “كاتاكومب”
يعود أصل كلمة كاتاكومب إلى الإمبراطورية الرومانية القديمة، وهي ممرات تحت الأرض قاموا ببنائها لممارسة الشعائر الدينية، كذلك أي حجرة تستخدم كمكان لدفن الجثث يطلق عليها هذا المسمى أيضا.
وتعتبر سراديب الموت من أكبر المقابر في العالم كما أنها واحدة من المقابر القليلة التي تقع تحت الأرض، وقد خضعت لعمليات تنسيق وزخرفة منمقة جدا تحت إشراف المحقق “هيريكارت” الذي قام بتنسيق العظام المكدسة وإعادة تنظيمها في الجدران بعناية فائقة “وفقا لتكوين المحجر المردوم سابقا”، حيث تكونت الواجهة من الصفوف المتراصة من عظمة القصبة بالتناوب مع عظام الجماجم، كما تم تثبيت الآثار الماسونية بطول الدائرة على شكل أعمدة أو أضرحة وشواهد قبور “وفقا للطراز المصري القديم”.
كذلك تم تسمية بعض المناطق بداخلها بأسماء مصادر دينية أو رومانسية عتيقة بهدف إضفاء جانب تعليمي إلى المقبرة، بالإضافة إلى الاقتباسات المنقوشة المأخوذة عن بعض النصوص المقدسة، وكذلك الشعرية والفلسفية، والتي تم توزيعها بين جدران السراديب بطريقة منمقة لاستكمال تصميمها المميز كمتحف فني.
بداية الحكاية
اقترح “فيرميرز جينيروكس” المسؤول عن تحصيل الضرائب في عهد لويس السادس عشر أن يقوم الملك ببناء سور حول باريس، يبلغ طوله 24 كيلومترا ليضم 55 مدخلا حتى يسمح بفرض الضرائب على بضائع التجار، وقد كانت السلطات تتوق بشدة إلى مشروع معماري متحضر كهذا.
لذا بدأ المهندس المعماري كلود نيكولاس على الفور برسم مخطط هندسي لهذا السور الذي سمي “بوابة الجحيم” والذي أسس عام 1785 على سرادقين مستطيلين متعامدين على جانب طريق أورليان، وقد اعتمد المهندس المعماري في تصميمه على بروبيليا اليونان القديمة والتي كانت تعد من أضخم البوابات التي وضعت عند مدخل المدينة، ليدفع من خلالها كل من أراد عبور الحاجز رسوم الدخول.
هندسة معمارية
تم بناء السرادقين على 4 مستويات، الطابق الأرضي ومقصورة البورصة “وهي المكان المخصص الذي يجتمع فيه الوسطاء والرؤساء الذين لهم حق التعامل في الأوراق المالية”، والطابق الأول والعلية، وعلى امتداد طريق أورليان من الواجهة الرئيسية صممت مجموعة من السلالم الرئيسية المؤدية إلى رواق يؤدي إلى 3 أروقة أخرى مبينة على أعمدة من التوسكان “وهي أحد أقدم وأشهر الأشكال المعمارية في إيطاليا القديمة”، وقد تم تمديد هذه الأعمدة على الجزء البارز من الطابق الأرضي.
كما تم تصميم الممر الرئيسي على شكل نوافذ فينيسيا، وقد كان الإفريز الوحيد المنحوت على الواجهة من تصميم جان غيوم مويت والذي زينه بشكل منمق وأنيق لنساء يرتدين ملابس على الطراز العتيق ويحملن ميداليات كبيرة مع غطاء من الأسلحة التي تعود إلى سكان المدينة قديما.
تحول غير متوقع
بحلول عام 1860 تم هدم السور سريعا والذي كان يجسد صرحا معماريا عظيما في ذلك الوقت، حيث تم إلغاء الضرائب عند مدخل المدن ولم يعد له أهمية كما كان سابقا، وفي عام 1867 أنشأت مدينة باريس إدارة الطرق العامة وألحقتها بمختبر “والذي احتل موقع السور المهدوم”، بهدف اختبار المواد وإدارة فحص المحاجر في الجناح الغربي، “وهي السراديب التي يتم حفرها تحت سطح الأرض بغرض استخراج موارد طبيعية”، وكذلك الجناح الشرقي والذي تم استبداله أيضا بخدمة المحاجر، ولكن الأمر الذي لم يخطر لهم أبدا أنها ستصبح فيما بعد سراديب للموتى والجثث.
رائحة الموت تفوح في الأرجاء
عانى سكان باريس لأعوام من مشاكل صحية بسبب المقابر التي تراكمت بها الجثث المتحللة حتى فاحت رائحتها في أرجاء المدينة، الأمر الذي أدى إلى اتخاذ قرار بنقل محتويات المقابر إلى موقع تحت الأرض في أواخر القرن الثامن عشر، وقد اختارت سلطات باريس موقعا خارج العاصمة يسهل الوصول إليه، وتمت بالفعل عمليات الإجلاء الأولى في عام 1785 إلى عام 1787، وتضمنت أيضا أكبر مقبرة في باريس وهي “مقبرة القديسين الأبرياء” والتي كانت قد أغلقت تماما عام 1780 بعد استخدامها لما يقرب من 10 قرون.
عملية الإخلاء السرية
هكذا تم إخلاء الأضرحة والقبور من عظام الجثث ليلا، تحاشيا لردود الأفعال العدائية من الكنسية والسكان المحليين، وتم نقلها إلى المحاجر، ثم إلقاؤها في بئرين عميقين قبل أن يقوم عمال المحجر بتوزيعها وتكديسها في صالات العرض “كما تسمى حاليا”، وقد استمرت عمليات النقل هذه لسنوات عدة حتى عام 1814.
الإعلان الرسمي للسراديب
تم افتتاح سراديب الموت إلى الجمهور عام 1809 والتي أصبحت من أكبر الأماكن السياحية الجذابة حتى إنها أصبحت من أكثر الأماكن التي استراح بها العديد من الشخصيات الشهيرة مثل “الإمبراطور النمساوي فرانسيس الأول”، و”نابليون الثالث” الذي قام بزيارتها بصحبة أفراد عائلته، ولا تزال سراديب الموت مفتوحة للجميع حيث تستقبل ما يقرب من 550 ألف زائر سنويا.
تحديات جيولوجية
لا تزال جهود الباحثين مستمرة لدراسة طبيعة هذه السراديب، التي احتفظت بذلك الكم الهائل من العظام في مكان رطب جدا تحت الأرض عبر تلك السنين، إذ تمثل تحديا صريحا للجيولوجيا الأرضية في محاولة لتخليد رفات البقايا البشرية والحفاظ عليها، والتي من شأنها الحفاظ على تراث باريس التاريخي أيضا.