لا شك أن اليابان دولة منتجة متقدمة في شتى المجالات، وقد شهدت ازدهارا هائلا في فترة وجيزة جدا، ولكن ما لا تعرفه أيضا أنها سجلت رقما قياسيا هائلا في حالات الانتحار على مدار عدة سنوات، و”غابة أوكيغاهارا” خير شاهد على هذا!
عقيدة الانتحار
في العصر الإقطاعي لليابان كان ينظر إلى الانتحار على أنه عمل مشرف لصاحبه، فعلى سبيل المثال كان يفضل محاربو الساموراي الانتحار على الوقوع في قبضة أعدائهم، كنوع من أنواع الحفاظ على شرفهم وكرامتهم، وحتى خلال الحرب العالمية الثانية كان ينظر إلى الجنود المنضمين إلى مجموعة الهجوم الخاصة للتضحية بأنفسهم على أنهم شخصيات جديرة بالاحترام تستحق التقدير، حيث كانوا ينهون حياتهم لأسباب شريفة.
أما الآن فأصبح الانتحار أسهل وسيلة للخلاص من صعوبات الحياة وأعبائها، حيث يقدم الكثيرون على إنهاء حياتهم بأيديهم لمجرد أنهم غير قادرين على الاندماج والتعايش مع المجتمع وظروف الحياة القاسية، ولأن أولئك الأشخاص لن يقدموا على فعل كهذا أمام الملأ، فيقومون بالبحث عن أماكن هادئة بعيدة عن أعين البشر، وبالنسبة لليابانيين تعد “غابة أوكيغاهارا” ملجأ جيدا ومناسبا للعزلة وقضاء لحظات حياتهم الأخيرة قبل الانتقال إلى العالم الآخر.
غابة أوكيغاهارا
تقع غابة أوكيغاهارا في القاعدة الشمالية الغربية لأعلى جبل في اليابان، المعروف باسم “جبل فوجي“، وهي الغابة الأكثر شهرة في اليابان والمعروفة أيضا باسم “جوكاي” والتي تعني “بحرا من الأشجار” وقد أطلق عليها هذا الاسم نظرا لكثافة الأشجار بها والتي تغطيها بالكامل حتى إنك قد لا تجد أي مكان مضيء في الغابة حتى في الظهيرة.
تحتوي هذه الغابة الصخرية الباردة على حوالي 200 كهف، كان من بينها بعض الكهوف المشهورة سياحيا مثل “كهف الجليد” و”كهف الرياح“، وتبلغ مساحتها 35 كيلومترا مربعا، وتعتبر جميع المناطق المحيطة بأوكيغاهارا متطابقة تقريبا نظرا لكثرة الصخور والأشجار الكثيفة بها، حتى إن السياح أو المسافرين كانوا يضعون شريطا بلاستيكيا لتحديد خط مسارهم حتى يجدوا طريق عودتهم مرة أخرى.
المكان الأمثل للموت
تحولت أوكيغاهارا فيما بعد من مجرد غابة هادئة فريدة من نوعها “لا توجد بها أي حياة برية وبالكاد تستطيع سماع صوت الطيور المغردة” إلى مكان مشترك للموت بين اليابانيين، حيث يذهب إليها كل من يريد إنهاء حياته ليقوم بالانتحار بعيدا عن أعين البشر، الأمر الذي جعلها من أشهر الغابات المسكونة والتي لا يجرؤ أي شخص على الاقتراب منها، ولذا أطلق عليها أيضا عدة أسماء مثل “غابة الشياطين اليابانية” و”غابة الانتحار” و”المكان الأمثل للموت“.
الرواية الغامضة
تعود القصة إلى عام 1960 عندما قام الكاتب “لسيشو ماتسوموتو” بكتابة رواية غامضة بعنوان “كوروي جوكاي” والتي تعني “بحر الأشجار الأسود“، وانتهت هذه الرواية بشكل رومانسي مأساوي حيث انتحر البطل العاشق في أحضان الغابة المليئة بالأشجار الكثيفة التي خيم عليها السكون والظلام، مما ساعد في إحياء الفكرة ورواجها عند أولئك الذين يريدون إنهاء حياتهم.
ومع ذلك لا نستطيع إلقاء اللوم على هذه النهاية المأساوية فقط، فغابة أوكيغاهارا لها باع طويل وتاريخ قديم مع سلسلة من الانتحارات التي بدأت قبل ذلك بفترة، حيث شنق الكثيرون أنفسهم على أشجار الغابة، وقد صدر في عام 1993 كتابا لواتارو تسوروموي -وهو الأكثر مبيعا في تلك الفترة- والذي يصف فيه الكاتب أنماطا مختلفة من الانتحار، وقد أوصى فيه بغابة أوكيغاهارا باعتبارها المكان الأمثل لإنهاء حياة أي شخص، وكان هذا الكتاب مثيرا للجدل في ذلك الوقت حيث تم إيجاده بكثرة في الغابة، وعادة ما كان يكتشف على بعد مسافة قصيرة من الضحايا المنتحرة أو داخل مقتنياتهم.
مارس المشؤوم
كان من الصعب عمل ملف تعريفي لمعدل أعمار الحالات المنتحرة في الغابة، ولكن التحقيقات التي أجريت ذكرت أنهم عادة ما يكونون من الذكور الذين تتراوح أعمارهم من 40 إلى 50 عاما، ويكون شهر مارس هو أكثر شهر تحدث فيه حالات الانتحار، ربما لأنه يعتبر نهاية السنة المالية في اليابان حيث يعاني الكثير من ضغوطات الحياة والأزمات المالية والتي تدفعهم إلى إنهاء حياتهم بأيديهم.
وكانت آخر بيانات تم إصدارها في عام 2003 حيث تم تسجيل 105 حالات انتحار مؤكدة، ويعتقد أن العدد كان أكثر من الحالات التي تم تسجيلها حيث لم يتم العثور على العديد من جثث الضحايا، وفي عام 2010 عرضت الشرطة بيانا بأن 247 شخصا حاولوا الانتحار في الغابة ولم ينجح منهم سوى 54 فقط، وبمرور الوقت توقفت الشرطة المحلية عن نشر حالات الوفيات، وهي وسيلة لتنشيط الرحلات السياحية مرة أخرى إلى هذه الغابة المذهلة التي تستحق الدراسة، كما أنها طريقة للحد من شعبيتها بين أولئك الذين يفكرون في الانتحار بشكل دائم.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
كما وضعت السلطات المحلية أيضا بعض اللافتات عند مدخل الغابة في محاولة لمنع عمليات الانتحار، وكتب عليها: “حياتك شيء ثمين أعطاك إياه والداك” و”فكر في والديك وإخوتك وأطفالك مرة أخرى، لا تتركهم وحدهم“، وتنتهي هذه اللافتات برقم الخط الساخن للمساعدات، على أمل أن يسترد بعض الأشخاص صوابهم، أو يقوم هؤلاء المعذبون الباحثون عن الموت بطلب المساعدة في آخر لحظة.
أرواح وأساطير
من المتعارف عليه أن الغابة مسكونة بالأشباح والشياطين وفقا للأساطير اليابانية ومعتقدات السكان المحليين، الأمر الذي سبب المزيد من الخوف والترويع للكثير من اليابانيين ورسخ لديهم اعتقادا بأن من يدخل الغابة لن يخرج منها أبدا.
وقد يكون هذا صحيحا، فحتى في وقتنا الحاضر يضل الكثير من المتنزهين طريقهم داخل الغابة ويذهبون إلى مصير مجهول، كما يفقد البعض أيضا إشارات هواتفهم واتجاهات البوصلات التي ترشدهم، وغالبا ما يحدث هذا نتيجة قوة الحديد المغناطيسية الكامنة في منطقة التربة البركانية القريبة منها.
ولكن السكان يعتقدون في سبب آخر وهو وجود أرواح شريرة مليئة بالكراهية والرغبة في الانتقام، والتي تعود إلى فترات المجاعات حيث كان رب الأسرة يذهب ببعض أفراد عائلته إلى الغابة ويتركهم هناك وحدهم حتى يموتوا جوعا من أجل توفير الطعام لأفراد الأسرة الآخرين، ووفقا للاعتقاد السائد في اليابان فإن الأشخاص الذين يموتون هكذا بمشاعر عميقة من الكراهية أو الغضب والحزن لا يمكن لأرواحهم أن تهدأ أو تغادر عالمنا، بل تظل هائمة على وجهها تستمر في التجول ليلا ونهارا حتى تجد فريستها لتنقض عليها وتسحبها إلى عالمها.