قال تعالى: “وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ*وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ*وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ*قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ*النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ*إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ”، اختلفت الأقاويل في تحديد من هم أصحاب الأخدود؛ فقد قال ابن عباس أنهم نصارى نجران، والملك الذي عذبهم هو ملك نجران، وقيل أيضا إنهم قوم من النصارى باليمن قتلهم ملكهم حرقا في الأخدود قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ40 سنة.
ويقال أيضا إن أصحاب الأخدود هم من قتلوا النصارى حرقا، أي الملك وأعوانه؛ وذلك لقوله تعالى: “قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ”، أي لعنوا، ولكن لماذا قد يقتل ملك رعيته ويحرق أكثر من 20,000 نصراني موحد؟! … تعال نتعرف إلى قصة أصحاب الأخدود.
قصة الراهب والغلام
عن صهيب بن سنان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه ذات يوم عن قصة أحد الملوك، فقال: “كان هناك ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر مقرب، فلما كبر الساحر قال للملك: “إني قد كبرت، فابعث لي غلاما أُعلمه السحر” فأرسل إليه الملك غلاما ليتعلم السحر على يده، فكان في طريقه في أحد الأيام ومر براهب، فقعد إليه وسمع كلامه، حتى تأخر على الساحر، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا الغلام ذلك إلى الراهب؛ فقال له: “إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر”.
وفي أحد الأيام رأى الغلام في طريقه دابة عظيمة تقطع على الناس طريقهم، فقال: “اللهم إن كان شأن الراهب عندك أفضل من شأن الساحر فاقتل هذه الدابة بحجري”، وأمسك حجرا ورمى به الدابة؛ فقتلت، فأتى الراهب فأخبره بما حدث، فقال له الراهب: “يا بني! أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلَى، فإذا حدث ذلك فلا تدل على”، وكان ذلك الغلام يُبرئ الأبرص والأكمه، ويداوي المرضى.
قصة الغلام وجليس الملك
كان الغلام يُسخّر ما أنعم الله به عليه من نعمة في دعوة الناس إلى دينه وإرشادهم إلى عبادة الله تعالى وحده؛ فكان يمر على صاحب المرض أو البلاء، ويشترط عليه أن يؤمن بالله تعالى وحده ويدخل في دينه قبل أن يشفيه بإذن الله، فسمع بأمره أحد جلساء الملك، وكان ذلك الرجل كفيفا، فذهب إلى الغلام الصالح بالكثير من الهدايا وسأله أن يشفيه من مرضه، فقال له الغلام: “إنني لا أشفي أحدا، ولكن الله تعالى يشفي من يشاء”، وسأله أن يؤمن بالله تعالى حتى يدعو له بالشفاء ويتخلص من علته.
فعل جليس الملك ما طلبه منه الغلام، وآمن بالله تعالى وحده؛ فدعا له الغلام بالشفاء، فشفاه الله وأصبح رجلا مبصرا، وذهب إلى الملك فلاحظ الملك شفاءه، فسأله عن سبب ذلك، فقال له الرجل: “شفاني الله تعالى”، فغضب الملك غضبا شديدا لأنه كان يدعي الألوهية، وقال له “من يكون إلهك؟!” قال له الرجل المؤمن: “إن الله تعالى هو ربي وربك”، فأمر الملك بسجن هذا الرجل وتعذيبه إلى أن دل الرجل على الغلام الذي كان سببا في إيمانه، فأرسل الملك في طلبه.
قصة الغلام والملك
عندما أُتي بالغلام إلى الملك، أمر الملك بتعذيبه إلى أن يدل على من أرشده إلى ذلك الدين، فعذب الغلام حتى كاد أن يموت، فدل على الراهب، فأرسل في طلبه، فأتى الراهب الملك، وأمره الملك أن يرجع عن دينه، ولكنه أبى؛ فقتله عن طريق شقه بالمنشار نصفين، وأتى بالغلام، فأمره أن يرجع عن دينه، فلم يقبل الغلام ذلك، فأمر الملك جنوده برمي الغلام من أعلى الجبل، فدعا الغلام ربه قائلا: “اللهم اكفنيهم بما شئت” فكفاه الله شرهم، ورجف بهم الجبل ومات الجنود ولم يمت الغلام.
رجع الغلام بعد حادثة الجبل إلى الملك مرة ثانية، فأدرك الملك نجاته، فأمر الجنود أن يأخذوه في سفينة ويلقوه منها في عرض البحر ليموت غرقا، فدعا الغلام ربه قائلا: “اللهم اكفنيهم بما شئت”، فكفاه الله شرهم وأتت عاصفة أغرقت السفينة بمن فيها إلا الغلام، فقد سمع الله تعالى دعاءه ونجاه من الغرق، فذهب الغلام إلى الملك مرة أخرى، فغضب الملك غضبا شديدا وجن جنونه، فقال له الغلام: “لن تستطيع أن تقتلني إلا بطريقة واحدة؛ وهي أن تصلبني على جذع، وتجمع الناس في صعيد واحد، وتأخذ سهما من كنانتي، وتقول: “بسم الله رب الغلام”، وحينها أموت”.
فعل الملك ما طلبه منه الغلام، وجمع الناس في صعيد واحد ليشهدوا قتل هذا الغلام، وأخد الملك سهما وقال بصوت خافت بسم الله رب الغلام وأطلق السهم فلم يصب الغلام، فظن أن الغلام قد خدعه، فقال له الغلام: “قلها بصوت عال”، فقالها الملك بصوت لا يسمع إلا جنوده وأطلق السهم فلم يصب الغلام أيضا، فقال له الغلام: “قلها بصوت يسمع جميع الناس فأموت”، ففعل الملك ذلك في المرة الثالثة، وأصاب السهم الغلام فمات.
سمع الناس ما قاله الملك، وأدركوا أن الله تعالى هو المعبود الواحد الأحد، وأن دين الغلام هو الدين الحق، فصاح الحضور جميعا: “آمنا برب الغلام”، وحينها صعق الملك! مات الغلام الذي كان يخشاه، ولكن أصبح هناك ألف غلام وغلام آخر يؤمنون بما آمن به الغلام والراهب، وينكرون ألوهيته، فقرر الملك قتلهم جميعا!
قصة أصحاب الأخدود
بعدما آمن أهل البلدة جميعا برب الغلام، أمر الملك جنوده بشق أخدود (حفرة) بطول المدينة، وإشعال النيران فيه، وأمر الناس أن يرجعوا عن دينهم، ومن لم يرجع منهم يُلق في الأخدود ليموت حرقا! فلم يقبل أي واحد ممن آمنوا بالله تعالى أن يرجع عن دينه، فألقوا جميعا في الأخدود، وأضرمت فيهم النيران، وذلك لأنهم آمنوا بالله تعالى وحده وكفروا بمن سواه!
وليست النهايات دائما سعيدة كما يريدها عامة الناس؛ فتلك القصة انتهت بالحرق والقتل، ولكن من يمعن النظر فسيحتقر تلك النار بجانب نار الآخرة، وسيعلم حتما أن هناك نهايتين سعيدتين، إحداهما: ثبات أهل القرية على دينهم، والأخرى: جنة الخلود الحقيقي لمَلِكِ المَلِك وملك كل ملك.
قصة أصحاب الأخدود في القرآن الكريم
يقول الله تعالى في سورة البروج: “وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ*وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ*وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ*قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ*النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ*إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ*وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ*وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ*الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ*إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ”.