إن الاجتهاد في العبادة أمر يشغل يَقْظَي القلوب والعقول ليلتفتوا عن الدنيا بإصلاح وتكثير ما يثقل ميزان حسناتهم في الآخرة، وإن صلاح حال المسلم لا يقتصر على انضباطه في الصلاة أو الصوم، وإنما ينبغي أن يكون مقتديا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في كل شأنه، في صلاته ونسكه وفي حياته اليومية، في مأكله ومشربه وحتى جلسته، فإن التخلق بأخلاق الأنبياء من صفات الصديقين، تعال نتخلق بخلق نبوي ضروري ونعلم قيمة العمل في الإسلام.
قيمة العمل في الإسلام
- من خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يأكل من عمل يده، فقال صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه» (البخاري)، ولا نجد نبيا إلا وكان له عمل، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: “كان آدم -عليه السلام- حراثا، ونوح نجارا، وإدريس خياطا، وإبراهيم ولوط كانا يعملان في الزراعة، وصالح تاجرا، وداود حدادا…”
- والعمل من أسمى العبادات التي يمكن أن تقرب المسلم لربه، وقد أمر الله المسلمين في القرآن بالالتفات لكسبهم بعد أداء الفروض فقال: “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون” (الجمعة:10) وقال تعالى: “وجعلنا النهار معاشا” (النبأ:11) أي وقتا للمعيشة والعمل، وقال تعالى: “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور” (الملك:15)
- ولم يحقر الإسلام من شأن عمل ورفع شأن آخر، ولم يضع شروطا للعمل غير كونه حلالا يرضي الله ولا يخالف الشريعة، فقال –صلى الله عليه وسلم- “ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده” (رواه البخاري)، وقال أيضا: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل”.
العمل بمنزلة الجهاد!
- بل واعتبر الدين الإسلامي أن العمل قد يصل بالإخلاص في النية فيه لله عز وجل، أنه قد يصل إلى مرتبة الجهاد في ساحات القتال، ونتعلم ذلك من السيرة النبوية، إذ رأى الصحابة رضوان الله عليهم شابا قويا مسرعا إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله (يعنون لو كانت هذه القوة والجهد مبذولة في الجهاد في سبيل الله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء ومفاخرة فهو سبيل الشيطان” (صحيح الجامع للألباني، برقم 1428)
- ومن هذا الحديث نرى أن نيات الناس للعمل قد تختلف، ولكن المقصد أن تختلف في نطاق مرضاة الله، وإن الحديث يبين أن من الجهاد الحفاظ على الأسرة وحفظها عن سؤال الناس، ومن الجهاد العمل للإنفاق على الأبوين برا بهما وحفظا للمعروف الذي قدماه لابنهما صغيرا، ومن الجهاد العمل لحفظ النفس وصدها عن السؤال وتكفف الناس، ولكن مهما بلغت قوتك وجدك في عملك، فقد يتحول إلى معصية إن كنت تتفاخر به أو ترائي، فلا تضع جهدك، واعقل أمرك!
ضوابط العمل في الإسلام
- وبإعلاء الإسلام شأن العمل، فقد وضع له ضوابط أيضا، حتى لا ينشغل الناس في العمل ويتركوا كل ما دونه، ومن الضوابط التي وضعها الإسلام للعمل الأمانة والإتقان فيه، فإن الغش ليس من صفات المؤمنين فقد قال صلى الله عليه وسلم: “من غش فليس مني”.
- وعن أبي هريرة، «أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ على صُبرةِ طعامٍ. فأدخلَ يدَهُ فيها. فنالت أصابعُهُ بللًا (أي أن النبي رأى رجلا يبيع طعاما مثل الأرز يباع جافا، فأدخل يده فيه فرآه مبتلا)، فقالَ ما هذا يا صاحبَ الطَّعامِ؟ قالَ أصابَتهُ السَّماءُ يا رسولَ اللَّهِ! قالَ أفلا جعلتَهُ فوقَ الطَّعامِ كي يراهُ النَّاسُ؟ من غَشَّ فليسَ منِّي» (رواه مسلم).
- وأهم ضوابط العمل أيضا ألا ينشغل صاحبه به عن الآخرة وعن طاعة الله عز وجل، قال تعالى: “رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار” (النور:37).
فعلى المسلم أن يكافح في طلب العمل، وأن يسعى إلى أبواب الرزق، ولكن دون أن يتعلق قلبه بالدنيا، فيجب أن يكون على يقين أن كل أمره بيد الله، وأن الله تعالى يمكن أن يسلبه ما هو منشغل به عن العبادة، وأن يعلم أن الحفاظ على العبادة وتحري الخصال الحسنة في معاملات عمله من أسباب الحصول على الرزق والتوسعة فيه، وأن يخاف الآخرة التي هي دار القرار والحساب، “والله سريع الحساب”.