هذه المرة، أعدك بأن ندخل إلى صلب الموضوع مباشرة دون التفاف وتلاعب بالكلمات، لن نقترف خطيئة هؤلاء الذين يسكنون استوديوهات التحليل الفارهة، لن نحدثك عن الروح الرياضية وضرورة التحلي بالأخلاق الحميدة، كل ما هو قادم قد يحمل وقعًا ثقيلًا على آذانك، ليس مثاليًا وفقًا لمعايير وضعها من لم ينتموا يومًا لمدينتنا، لكنه حقيقي.
قبل الخوض في التفاصيل، دعنا نخبرك بالحقيقة الأولى، التي قد تبدو لوهلة صادمة، بما أنك قد قررت طواعية أن تضغط على الرابط لتعرف العلاقة ما بين الكراهية وكرة القدم، فغالبًا أنت مشجع لفريق ما، ما يعني حتميًا أنك تكره فريقًا آخر، المعادلة بهذه السهولة فعلًا، مهما حاولت رفضها.
ليس هذا كل شيء للأمانة، فغالبًا قد لا تسعد لفوز لفريقك بـ”درزن” من الأهداف بقدر سعادتك لخسارة غريمك التقليدي، حتى وإن كنت تتحلى بأعلى معايير السلام النفسي الداخلي، وأقصى درجات تقبل الآخر، حين يتعلق الأمر بالمنافس في الأغلب نتحول لأشخاص أسوأ، وفقًا لنفس المعايير التي وضعها نفس البشر المذكورين أعلاه، قضية مربكة، أليس كذلك؟
محاولات يائسة
سحب اعتراف مبدئي بكراهية الآخر من على لسان مشجع لكرة القدم ليس بالأمر الصعب، لكن المشكلة تكمن في محاولات المشجع تبرير كراهيته تلك، وكأنه من الممكن أن يكون هنالك مبرر للكراهية من الأساس.
يحاول المشجع دائمًا إيجاد مبرر يراه منطقيًا لكراهية المنافس، لأن البشر في العموم يحتاجون لغطاء -حتى وإن كان زائفًا- لتصرفاتهم، فتارة، تجد المشجع يحيل سبب كرهه للمنافس إلى كأس سرقت منه بآخر دقائق مباراة نهائية، أو لأن المنافس يمتلك بين صفوفه لاعبا محتالا لا يتوانى عن السقوط داخل منطقة الجزاء دون أن يمسّه أي ضرر، هي أسباب تحمل الكثير من المنطقية للمزيد من الأمانة، لكن ماذا لو أن كلها اختفت فجأة؟ ماذا لو أن فريقك هو الذي فاز بكأس في آخر أنفاس اللقاء دون وجه حق؟ ماذا لو أن فريقك هو الذي يسانده التحكيم في لحظات حاسمة؟ وماذا لو أن اللاعب “الغطاس” قد انتقل إلى فريقك؟ أسئلة بلا إجابة، صحيح؟
“إيفرتون هو نادي الشعب”
– ديفيد مويس، المدير الفني الأسبق لإيفرتون الإنجليزي.
لدينا سؤال جديد، لماذا تساند فريقًا دونًا عن غيره؟ إليك بعض الإجابات البديهية، يمكننا إرجاع قرارك ذلك إلى عدة أسباب، ربما أعجبت بلاعب ما لعب ضمن صفوفه، وربما لأنه كان الفريق الذي يسانده والدك الذي تعتبره مثلك الأعلى لذا قررت أن تتبع خطواته، أو لربما لأنك أعجبت بألوان قميص الفريق فقط، نعم تبدو أسبابا ساذجة بالفعل، لكنك فقط إذا قررت العودة إلى أصل حكايتك مع فريقك الذي تحبه، لربما تكتشف أسبابًا أكثر سذاجة لذلك الحب، لا عيب في ذلك.
ولأننا بشر، لا نحبذ أن يصفنا أحد بالسذاجة، هي رغبة فطرية في أن نظهر كأناس أفضل لا يتبعون غرائزهم البهيمية، بالتالي، لا مانع في إضافة غطاء زائف جديد، وهو غطاء الهوية.
حرب جديدة تطفو على السطح، تتخطى حاجز كرة القدم واللاعبين، حرب يراها البعض سببًا حقيقيًا لتفضيلاتهم. لذلك قد ترى في كلمات “مويس” عزاءً لك إن كنت أحد المنتمين للجانب الأزرق من إقليم الميرسيسايد، لأنه حسب رأيه، يجب أن نحيل ضعف مستوى النادي لسبب منطقي، وهو أن ثراء الجانب الأحمر من المدينة مقارنة بهم هو السبب في تحقيقهم للبطولات، كما أنه مدعاة للفخر كون الـ”توفيز” مثلوا آنذاك الجانب الكادح في الحياة، والعكس بالعكس، فمرتادو الـ”أنفيلد” يعتقدون بأن هؤلاء رعاع، لا يمتلكون ما يمتلكه فريقهم من صيت ذائع، وبطولات لا تعد ولا تحصى.
حسنًا، لقد وصلت لبيت القصيد الآن، المشجعون حوّلوا بصورة أو أخرى الصراع لصراع أيديولوجي، فإن ذهبت لشبه الجزيرة الإيبيرية ستجد حربًا ضروسًا ما بين فريق فرانكو -ريال مدريد- ونظيره الباحث عن الاستقلال -برشلونة-، حتى وإن قررت أن تذهب إلى آخر العالم، ففي الأرجنتين صراع مشابه، بين أصحاب الملايين والطبقة الفقيرة. حتى وإن افترضنا وجود ذلك الصراع الأيديولوجي هناك بمحل حدوثه، ومع إقرارنا النسبي باحتمالية تأثيره على النتائج الخاصة بالنادي، ما الذي يدفع أحد سكان إفريقيا النائية إلى التمسك به، بل واتخاذه سببا مباشرا في تفضيله لفريق على آخر؟ سؤال آخر بلا إجابة.
ماذا بعد الحقيقة؟
نعتذر عن عدد الأسئلة المهول، ونعتذر مرة أخرى عن عدم توصلنا لإجابة قاطعة على أي منها، ذلك لأننا بالفعل لا نمتلك إجابة، لكن عوضًا عن ذلك، يمكننا مد خط الكراهية ذلك على استقامته، فقد نصل بنهاية المطاف إلى شيء مادي يجيب على تساؤلاتنا.
الخصومة مصطلح يحمل وقعًا سيئًا على الآذان دون شك، يذكرك بكل الأفعال الدنيئة التي قد تقترفها أو تبررها لتربح، نعم، هذا هو الجانب المظلم من المنافسات الرياضية، الجانب الذي من الممكن أن نبرر عبره الغش مثلًا، أو ضرورة اللعب بخشونة تجاه الغريم التقليدي، فطبقًا لما ذكره “جافين كيلدوف” في دراسة تم نشرها عام 2014، نحن لا نفعل ذلك تجاه الجميع، لكننا نفعل ذلك ضد هؤلاء، وهؤلاء فقط، لأننا بالفعل نكرههم، حتى دون أن نشعر.
“لا وجود لك في هوليوود إن لم يرد أحدهم أن تموت”
– بيرني بريلشتاين، المنتج السينمائي الأمريكي.
الخصومة تدفعنا للأمام، نحو تخطي بعض الحواجز التي قد نراها أصعب من أن يتم اجتيازها، فبالعودة إلى كيلدوف مجددًا، والذي أسهب في شرح ما يحمله الجانب المظلم من الخصومة، إلا أنها أحيانًا تجعل الرياضي يؤدي بشكل أفضل ومجهود مضاعف.
وفقًا لدراسة أخرى نشرتها جامعة كاليفورنيا أقيمت على 3000 مباراة بالدوري الإيطالي الممتاز لكرة القدم، حيث أظهرت النتائج بأنه أثناء المباريات التي تشهد معدل حضور جماهيري كبير، خاصة إن كانت بين غريمين تقليديين، فغالبًا سيتعرض اللاعبون على أرض الملعب لتلقي الإنذارات والكروت الحمراء ضعف الطبيعي تقريبًا. وذلك ما أرجعه فريق البحث لنشاط هرمون الـ”تستوستيرون” لدى الرياضي، لذلك يمكننا ربط ذلك بدراسة أخرى تؤكد بأن بعض العدائين يجتازون السباق الذي يخوضونه ضد منافس مباشر بفارق 4 ثوان كاملة عن المعتاد لكل كيلومتر. ما يعني أخيرًا، أننا نحتاج لغريم حتى نصبح أفضل وليس العكس.
يخلق من الشبه 40
بالعودة لأوائل القرن الـ20، حاول “سيجموند فرويد” أن يغوص في حقيقة أسباب الخصومة بين البشر في العموم، بطرحه سؤالا وجيها: وهو لماذا نشعر بعدم الراحة حين يخبرنا أحدهم بأنه يوجد هنالك 39 نسخة أخرى مماثلة لنا، لماذا يشكل ذلك أساسًا أي تهديد على حياتنا؟
في الغالب عندما تتشابه تصرفاتنا مع تصرفات شخص آخر، نشير إليها بعبارة “شبه غريب”، تلك هي المعضلة التي حاول فرويد حلها في مقاله “الغريب” والذي نشر في عام 1919. يرى فرويد بأن الشعور بعدم الراحة تجاه شخص يشبهنا منطقي، لأنه يعد تهديدًا للمساحة التي أسماها “المنزل”، وهي تلك المساحة التي يعبر من خلالها كل شخص عن هويته التي يرغب في أن تظل ملكًا له وحده، وفي الأغلب سيشعر بالضيق إذا ما شاركه أي شخص نفس المساحة.
طبقًا لـ”بول هايدن”، محرر “غارديان”، هذه الظاهرة يمكننا تسميتها بالنرجسية ما بين المتشابهين، وهي حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها، كما أن تتعدى مسألة الرياضة من الأساس، فإذا راجعت تاريخ الصراعات السياسية، ستجد أن البلدان الملاصقة حدوديًا غالبًا ما تنشأ بينهم صراعات بغرض فرض السيطرة. كذلك يمكننا افتراض أن الرغبة في التفوق على المنافس التقليدي رياضيًا تأتي من النفس المنطلق العفوي، وهو إشباع الأنا لدى صاحبه.
بالعودة مرة جديدة لفرويد ورائعته الـ”حضارة والسخط”، الإنسان يميل بالفطرة لفكرة الخصومة، لأننا نشأنا في مجتمعات تشحننا بالكثير من الطاقة لنحافظ على كراهيتنا لمن يسكن بالباب المجاور لنا، فحتى وإن كانت تلك المنافسة صحية، إلا أنها تدفعنا في النهاية لمعاملة المنافس كعدو. لا نرغب في اختفائه، بالعكس، نرغب أن يظل حيًا يرزق، لكن دون نجاحات. لماذا؟ لأنه إذا حقق النجاح على حسابنا، سيضرب هويتنا، يهدد مساحتنا الشخصية.
لذلك لا تتعجب إن أنقذ بايرن ميونيخ غريمه بوروسيا دورتموند من الإفلاس، ولا تندهش إذا ما دعا كريستيانو رونالدو غريمه ليونيل ميسي إلى تحد جديد على كوكب المريخ، لأنه وللأسف بدون غريم، لا وجود لنا.