في عام 1986، غادر كريستوفر نايت البالغ من العمر 20 عامًا منزله في ماساتشوستس، وتوجه إلى الغابة في ولاية مين واختفى، ليظل هناك على مدار الـ27 عامًا التالية، معتبرًا خيمة من صنعه منزله، متأقلمًا مع العيش في غابة لا يمكن اختراقها، لكن الأهم هو أنه لم يجرِ محادثة مع شخص آخر منذ عقود.
كريستوفر نايت في سطور
وُلد كريستوفر نايت في 7 ديسمبر 1965، يتذكره أصدقاؤه وعائلته على أنه طفل منعزل دائمًا، بدأ هذا عندما كان صغيرا، واعترف نايت للجميع بأنه كان لديه أبوان جيدان، لكنه لطالما وجد الناس غامضين وكافح من أجل التواصل مع أي شخص لكن لسوء الحظ فشل.
كان نايت طالبًا متميزًا خلال سنوات دراسته الثانوية، حيث كانت تقييماته الدراسية جيدة جدًا، وكان قادرًا على التخرج مبكرًا، فبمجرد تخرجه من المدرسة الثانوية، التحق نايت بمدرسة فنية في والثام بماساتشوستس، ليدرس الإلكترونيات.
على الرغم من نجاحه الدراسي، ظّل كريستوفر يعاني من صعوبة في تكوين الصداقات، حتى بعد أن حصل على وظيفة (تركيب أجهزة إنذار في المنازل)، وبعد أن استطاع أن يبتاع سيارة من نوع (سوبارو) الذي كان يحلم به، بعد أن حظي بقرض بمساعدة أخيه، لطالما شعر نايت بأن هنالك ما ينقصه.
نحو الغابة
بمرور الوقت، أصبح نايت غير راضٍ بشكل متزايد عن وظيفته، وبادر بالاستقالة وقرر أن يأخذ سيارته الجديدة في رحلة برية جنوبًا إلى فلوريدا، وعندما كان يقود سيارته عائدًا لمنزله، قاد نايت سيارته عبر ألبيون، منزل طفولته في «مين»، وهو مكان صغير يقع شمال شرق «أوغوستا».
نفد الوقود من نايت على طريق ترابي، آنذاك، قرر نايت ترك سيارته والذهاب إلى الغابة، تاركًا مفاتيحه داخل سيارته الـ«سوبارو»، لكن في هذا الوقت، لم يكن لدى نايت خريطة للمنطقة ولا وجهة محددة ليستقر بها، كل ما كان لديه هو خيمة، لم يسبق له استخدامها من قبل.
في خضم بحثه عن مكانٍ مناسب ليستقر به، وبعد أسابيع من المشي داخل الغابة، كان كريستوفر يقوم بسد جوعه بسرقة بضعة ثمرات من الحدائق التي يمر بجانبها، إلى أن توصل لمكان اعتبره مثاليًا للإقامة، كان في وسط غابة كثيفة ومحمية بالصخور، وعلى جانبي هذا الموقع كان هناك بركة، كما أنه قريب من عشرات الكبائن الصيفية المحلية.
غريزة البقاء
الشتاء في ولاية ماين شديد البرودة، حيث يمكن أن تنخفض درجات الحرارة هناك إلى (-25 درجة فهرنهايت)، فخلال فصل الشتاء، كان نايت يستيقظ في أبرد جزء من الليل، ليبدأ بعد ذلك في التحرك حول معسكره ليظل دافئًا قدر الإمكان، في نفس الوقت، أراد نايت تجنب الشك في حال تم رصده، ومن أجل تحقيق ذلك، كان يهتم بانتظام بحلق شعره وقصه بانتظام في حال رآه أي شخص.
أراد نايت أن يفعل كل ما في وسعه لإخفاء موقع معسكره عن بقية العالم، لم يشعل النار مطلقًا، بل كان يستخدم موقد البروبان لإذابة الثلج وكذلك للشرب والطهي، وكان ينقل أسطوانات البروبان المسروقة في زوارق كان يأخذها من معسكرات مجاورة فارغة.
كان نايت يجدف على طول الخط الساحلي في الساعات الأولى من اليوم حتى لا تظهر صورته الظلية في المياه المفتوحة، وعند عودة بالزورق، كان يرش عليه إبر الصنوبر حتى يبدو وكأنه لم يتحرك، بينما كان يقوم بتخزين المؤن التي يحتاجها بفصلي الصيف والخريف، والتي تجعله قادرًا على العيش بالفترة ما بين شهر نوفمبر ومارس الذي يليه، وبهذا يتجنب التحرك كثيرًا بفصل الشتاء، وبالتالي عدم قدرة كشف أي شخص لمكانه عبر تتبع أثار أقدامه على الجليد.
بالتأكيد كان كريستوفر نايت في حاجة لأن يحصل على المزيد من الإمدادات كي ينجح في البقاء على قيد الحياة، وبما أنه ذو باع في مجال أجهزة الإنذار والمراقبة، كان نايت يراقب بعض المنازل لعدة أيام لمعرفة عادات أصحابها، ثم يقوم بسرقة ما يحتاجه منها في ليالي العطلات الأسبوعية.
بمجرد دخوله إلى الكابينة المستهدفة، كان نايت يحاول تحديد مكان مفتاح احتياطي، ثم يخفي المفتاح الاحتياطي في مكان ما بالخارج ولكن بالقرب من المقصورة من أجل عمليات الاقتحام المستقبلية، ولكن لم يسرق نايت سوى عدد قليل من العناصر، بل إنه لم يحاول قط أخذ كميات كبيرة من الممتلكات من أي حجرة واحدة، يبدو الأمر مثيرًا للسخرية بالنسبة لسارق، لكن حقيقة، كان كريستوفر نايت يسرق العناصر التي يراها متاحة بوفرة عند ضحيته، أو تلك التي يبدو أن الضحية على وشك التخلص منها.
كان هدف نايت من السرقة بسيطًا للغاية، حيث كان يسرق لكي يضمن لنفسه ألّا يعود مجددًا مضطرًا للتعامل مع البشر الذين لا يرتاح في التعامل معهم، فمثلًا؛ كان من بين الأشياء التي سرقها الكثير من الطعام، ومراتب بحجم مزدوج، وراديو، وألعاب فيديو، بالإضافة إلى تلفاز باناسونيك مصغر بالأبيض والأسود. وغالبًا ما كان يأخذ البطاريات وأدوات النظافة وكذلك الأحذية والملابس، كما سرق نايت بطارية سيارة واستخدمها لتشغيل التلفزيون الأسود والأبيض المسروق.
حل اللغز
بالنسبة لسكان المنطقة المحيطة بموقع كريستوفر الجديد، كان الأمر أشبه باللغز الذي لا يوجد له حل، فهم يتعرضون للسرقة طوال 27 عامًا دون أن يعثروا على متهم واحد، حيث كانت تصرفات نايت متخفية للغاية، وكانت أغراضه المسروقة صغيرة جدًا، خلال العقود التي كان نشطًا فيها، ما جعل السكان يعتقدون أنهم أمام أسطورة خيالية.
في الـ4 من أبريل عام 2013، ألقي القبض على كريستوفر نايت بواسطة رقيب يدعى تيري هيوز، بعد سرقته لرقائق بطاطس، وبعض من الخبز من أحد معسكرات الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، وكان لدى نايت أيضًا 395 دولارًا نقدًا، احتفظ بها تحسبًا لأي حالة طوارئ، وكان بعضها قديمًا جدًا لدرجة التعفن.
وقف كريستوفر نايت أمام القاضي بـ28 من أكتوبر بنفس العام، ليعاقب بالسجن لمدة 7 أشهر -كان قد قضاها بالفعل داخل السجن- لما اقترفه من جرائم واعترف بها، كما غرم بـ2000 دولار كتعويض لضحاياه، واضطر للخضوع لبرنامج مختص بالعلاج النفسي يسمى «الاضطرابات المتزامنة»، وهو برنامج تم صنعه لمساعدة الأفراد الذين يعانون من اضطرابات الصحة العقلية أو مشاكل تعاطي المخدرات.
حقيقةً لا يعلم أحد السبب الحقيقي الذي دفع نايت للعيش 27 عامًا داخل الغابات، لأن فكرة العزلة لا تبدو مقنعة بكل أمانة، لكن ظل اللغز الأهم غامضًا حتى بعد أن صدر كتاب بعنوان “غريب في الغابات” والذي يحكي قصة نايت كاملة.
على العموم لا نمتلك سوى حقيقة واحدة، وهي أن كريستوفر نايت لم يتحدث طوال الـ27 عامًا سوى مرة واحدة، عندما قال مرحبًا لشخص كان يتنزه بالغابة بالقرب من محل إقامته، لكن الأكثر غرابةً أن الرجل الذي كره العالم قبل 3 عقود، يعيش الآن حياة هادئة، حصل على وظيفة، وكأن شيئًا لم يكن.