تبوأت المرأة في مصر القديمة مكانة بارزة في شتى مناحي الحياة، وصلت بها حد التقديس، فضلا عن جعلها شريكة للرجل، وجعلها أحد الأسباب الرئيسية في نمو الحضارة المصرية، ويتجلى ذلك في حكمة شهيرة للحكيم المصري القديم كاجمني، قائلا “علموا المرأة يتعلم الرجل.. ويتعلم الشعب”، ومن أبرز وصايا الفرعون المصري بتاح حتب للزوج في معاملة زوجته منذ أكثر من 3500 عام، “إذا أردت الحكمة، فأحب شريكة حياتك، اعتن بها كي ترعى بيتك”.
وبخطوة عمرها 7000 سنة، سبقت الحضارة المصرية حضارات الشرق القديمة والحضارات الحديثة أيضا، منذ إيمانها بضرورة تولي ملكات مصر الفرعونية مناصب عليا في البلاد، فكانت ملكة شاركت زوجها الملك في إدارة شؤون البلاد، أو وصية على العرش، أو ملكة انفردت بالحكم في ظل غياب وريث للعرش، فضلا عن دورها الأساسي كأم وزوجة.
وبالنظر للولايات المتحدة الأمريكية، فسنجد أنه لم يتم انتخاب امرأة واحدة للترشح لأعلى منصب في الولايات المتحدة، في الوقت الذي بدأت المرأة فيه تشغل وظيفة ملكة فرعونية منذ عهد الأسرة الثانية، فاعتلت العرش وشاركت في حماية البلاد في ظل ظروف سياسية وتاريخية عصيبة، وحملت ألقابا عدة عبر العصور أبرزها “سيدة مصر العليا والسفلى” و”سيدة الأرْضَين” و”الحامية” و”العالمة” و”الحاكمة” و”قوية الذراع” و”سيدة التجلي”.
لم تكن المرأة في مصر الفرعونية ملكة فقط، ولكنها امتهنت أدوارا عدة، كالكاهنة حتب والطبيبة مربت بتاح التي تولت منصب كبير الأطباء المسؤول عن تركيب الأدوية والفحص في عهد الملك زوسر بالأسرة الثالثة الفرعونية.
ويقف قل ودل على 3 من أشهر ملكات مصر الفرعونية، رصدهن كتاب “عندما حكمت النساء العالم”، وهو كتاب أمريكي لمؤلفته عالمة المصريات الأمريكية كارا كوني.
كليوباترا.. المتمردة والطموحة
واحدة من أشهر ملكات مصر الفرعونية، وهي آخر ملكات الأسرة المقدونية، ممن تربعن على عرش مصر، منذ وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 قبل الميلاد، وحتى احتلال مصر من روما عام 30 قبل الميلاد، ارتبط اسمها باستغلال الجمال والمكائد، على الرغم من أن طموحاتها لم تتحقق، إلا أنها تمكنت من تخليد اسمها من خلال قصتها حول الحب والمأساة.
وكليوباترا هي ابنة الملك بطليموس الثاني عشر المصري، وخلفته كملكة سنة 51 ق.م، مشاطرة العرش مع شقيقها بطليموس الثالث عشر، والتي كانت دائمة النزاع معه حتى طردها من مصر، إلى أن قادت التمرد ضد شقيقيها، وحاولت كليوباترا العودة إلى مصر، فتوسلت إلى القيصر الروماني لمساعدتها في العودة إلى حكم مصر مرة أخرى، وبالفعل ساعدها في التغلب على بطليموس، وحكمت مصر بضع سنوات.
وتعد كليوباترا الملكة الفرعونية الوحيدة التي تولت العرش واستغلت قدرتها الإنجابية لخلق إمبراطورية مترامية الأطراف، من رحم مثمر أنجب بواسطة اثنين من أمراء الحرب الرومانيين، حيث أنجبت طفلا من يوليوس قيصر، و3 أطفال من مارك أنتوني، وأصبح بعدها كل منهم مسؤولاً عن جزء مختلف من إمبراطوريتها الشرقية المتنامية، في منافسة مع الإمبراطورية الرومانية الغربية.
وذلك على عكس باقي ملكات مصر الفرعونية، الذي جاء حكمهن بديلا عن وريث للعرش ولكنه أصغر، أو بسبب نقص الذكور لعائلة ما، ويذكر أن قيصرون ابن كليوباترا هو من حكم بعد وفاتها.
كما نشرت العملات المعدنية التي صكت بصورة كليوباترا، أنها لم تنل حظا من الجمال، كما أن المكتوب عنها يتناول ذكاءها ودهاءها، الذي جذب إليها أمراء الحرب الرومان، إلا أن كليوباترا في الحقيقة كانت تمتلك قدرا من الجمال والسحر، عكس ما أظهرته الصور التي وصلت إلينا.
نفرتيتى.. أجمل ملكات مصر
تمثل نفرتيتي مثالا للقوة النسائية الحقيقية والناجحة، قامت بالقضاء على أعدائها وأنقذت مصر في لحظة حرجة من تاريخها، حيث تصدت للفوضى التي أحدثها الرجال الحاكمون قبلها، ومهدت الطريق لمن يحكم من الذكور بعدها، وهو الملك توت عنخ أمون صاحب المقبرة الشهيرة في وادي الملوك.
ارتدت نفرتيتي ثوبا رقيقا طويلا، ونوعت في ردائها من التيجان، فلبست تاجا ذا ريشتين مرة، وتاجا ذا ريشتين وتحته قرص الشمس مرة أخرى، كما عرفت بجمالها ورقتها، كما لم يخل اسمها من الجمال، والذي يعني (الجميلة أتت)، والذي غيره أخناتون لاحقا إلى “نفر أتون نفرتيتي”، ومعناه “أتون يشرق لأن الجميلة قد أتت”.
وتنتمي نفرتيتى ابنة قائد الجيش الفرعوني “آي” للأسرة الـ18ق.م، وعاشت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ملكة عزيزة وصاحبة منزلة رفيعة أثناء فترة حكم زوجها الفرعون أمنوفيس الرابع أو أمنحتب الرابع، والشهير بـ”أخناتون”، الذي دعا لعبادة قرص الشمس “أتون”، ومن ألقاب نفرتيتى الملكية “الزوجة الملكية العظيمة”، وقد أنجبت نفرتيتى من أخناتون 6 من البنات.
وكانت نفرتيتي تساند زوجها أثناء ثورته الدينية والاجتماعية، كما لعبت دورا هاما في نشر المفاهيم الجديدة التي نادي بها زوجها، وظهرت معه أثناء الاحتفالات، إلى أن أصابها مثلما حدث مع زوجها، فقد تم محو اسمها من السجلات التاريخية كما تم تشويه صورها بعد وفاتها.
توفيت نفرتيتي في العام الرابع عشر من حكم أخناتون، ودفنت في مقبرتها بالمقابر الملكية، في تل العمارنة، وقد عثر على قبرها بالقرب من قبر الملك توت عنخ آمون ابن زوجها “أخناتون” وزوج ابنتها.
حتشبسوت.. جمال ونفوذ
من أشهر الملكات اللاتي حكمن مصر في التاريخ، وتولت عرش مصر ما بين عامين 1479 إلى 1458 ق.م، وتميزت بقوة شخصيتها، وتمكنت من سلب العرش من ابن زوجها تحتمس الثالث لصغر سنه، وظهرت في زي الرجال، وتشبهت بهم حد تركيب الذقن، كما استخدمت حذاقتها، قائلة لشعبها: “لقد اختارني الله، وتحدث إليّ الإله آمون رع وأخبرني بتولي الحكم”.
حتشبسوت والتي يعني اسمها “أبرز السيدات النبيلات”، هي الابنة الكبرى لملك مصر تحتمس الأول، وأنجب والدها ابنا غير شرعي هو تحتمس الثاني، والذي قبلت الزواج منه لكي تبرر جلوسه على العرش، وأنجبت منه ابنتيهما “نفرو رع” ومريت رع-حاتشبسوت، كما أنجب زوجها من زوجة أخرى الخادمة آست اي إيزيس ابنه تحتمس الثالث الذي تزوج من الأميرة مريت رع-حاتشبسوت، وأصبحت له شرعية تولي العرش، ابنهما تحتمس الثالث” وقد شاركت زوجها الحكم حتى توفي، وظلت تحكم كوصية وكملكة، مبررة بذلك صغر ابنها، وأنها الابنة الإلهية للإله آمون وممثلة للإله حورس.
واشتهرت حتشبسوت برحلاتها فقد أرسلت أسطولا كبيرا إلى المحيط الأطلسي لاستيراد نوع نادر من الأسماك، وأرسلت بعثة إلى الصومال “بلاد بونت قديما” مكونة من سفن كثيرة من خلال البحر الأحمر للتبادل التجاري، واستقدام البخور والعطور، كما أرسلت مسلتين عظيمتين للإله آمون في رحلة إلى أسوان عبر النيل وصولا إلى طيبة ونصبتهما في الكرنك، وقام نابليون بنقل إحداهما إلى باريس لتزين ميدان الكونكورد هناك.
وتعد علاقتها بالمهندس المصري الشهير “سنموت”، الذي بنى معبدها في الدير البحري، من أكبر الألغاز في قصتها، ونشأت بينهما علاقة حب أسطورية، حفر لها نفقا بين مقبرته ومقبرتها، وقد انتهت حياة كل منهما نهاية غامضة ما تزال لغزا حتى يومنا هذا، وبعد وفاتها أقدم الملك تحتمس الثالث على حرق معظم تماثيلها كنوع من الانتقام، فكان يريد محو تاريخها، وكان قد تولى الحكم حينها.