يحكي الصحفي «ريتشارد فرانكس» لهيئة الإذاعة البريطانية، مشاهدته طفلين بجزيرة «لا غوميرا»، ثاني أصغر جزر الكناري الإسبانية، وهما يتحدثان لغة «سيبلو غوميرو»؛ وهي لغة محلية عبارة عن “صفارات”، وفي غضون دقائق، تعالت أصوات التصفير وتردد صدى الصوت بعد اصطدامه بالصخور الوعرة لهذه المنطقة الجبلية.
ما هي لغة «لا غوميرا»؟
طبقًا لـ«أوجينيو داريا»، معلم لغة «سيلبو غوميرو» المتقاعد، والذي يبلغ من العمر 70 عامًا، فالمحادثة التي دارت بين الصغيرين عن طريق الصفير كانت مشابهةً تمامًا لمحادثات السكان المحليين للجزيرة قبل وقت طويل، ولكنه أشار إلى أن هنالك 6 أصوات مختلفة تُشكل لغة «لا غوميرا» التي يحاول جاهدًا حمايتها من الاندثار.
وعلى الرغم من أن الأطفال حاليًا مضطرون للتعامل بلغتهم الرسمية (الكناري الإسبانية)، لكن بفضل داريا، أصبحت هذه اللغة المهددة بالانقراض مادة إلزامية يدرسها الأطفال بالمدراس منذ عام 1999 تقريبًا، حيث يتمكّن سكان هذه المنطقة، البالغ عددهم نحو 22 ألف إنسان فهم لغة أجدادهم جنبًا إلى جنب مع اللغة الرسمية لجزر الكناري.
اختصار للكلمات
يحاول داريا من خلال برنامجه لتعلم لغة «لا غوميرا» إيضاح حقيقة أن اللغة في حد ذاتها ليست مهمة في التعاملات اليومية، ومن الممكن جدًا الاستغناء عنها، لكن في نفس الوقت، عند حماية لغة الصافرات، يحمي السكان بدورهم تراثهم الخاص، ويحمونه من الانقراض كغيره.
بينما تؤكد «فرانسيسكا جونزاليس»، الصحفية المحلية، على أنّ لغات التصفير لا تزال موجودةً على الأقل في 70 مكانا حول العالم. في تركيا، بدأت صفارة الإنذار قبل 500 عام خلال الإمبراطورية العثمانية، ثم انتشرت الفكرة بعد ذلك إلى جميع مناطق البحر الأسود أما في المكسيك، لا يزال بإمكاننا العثور على اتصال بواسطة الصفير باللغة الإسبانية التي تعرف بـ«شيشانتيك».
تستخدم لغة «سيلبو غوميرو»، وهي واحدة من أكثر لغات التصفير التي تمت دراستها والتي تم إعلانها رسميًا على أنها تراث ثقافي غير ملموس من قبل اليونسكو في عام 2009، ستة أصوات مكثفة للتواصل، حيث تحل صفارتان مختلفتان محل الحروف المتحركة الخمسة المنطوقة باللغة الإسبانية، بينما تحل 4 فقط محل الحروف الساكنة الـ22، وتقوم الصافرات بإطالة أو تقصير الأصوات لتقليد الكلمات.
طرق التصفير
توجد العديد من طرق التصفير في الجزيرة، منها ما يتطلب ثني السبابة ووضعها داخل الفم أثناء التصفير براحة اليد بجانبها لتضخيم الصوت، بينما يستخدم المصفرون ذوو الخبرة أساليب مختلفة باستخدام الإصبع ويمكنهم في كثير من الأحيان معرفة من يتصل “بلكنة” الصافرة وحدها، وعندما تُفهم الرسالة، يطلقون صافرة تعرف بـ”بوينو بوينو”؛ وهي صافرة قصيرة تعني وصول الرسالة بنجاح.
وعلى الرغم من أن هذه اللغة قد تبدو بسيطةً، إلا أن أصولها معقدةً للغاية، فتشير كتب التاريخ إلى أن صافرة البداية تعود إلى عام 1402 على الأقل أثناء الفتح الإسباني الأولي لجزر الكناري، لكن التراث القديم لسيلبو غوميرو غالبًا ما يكون موضع نقاش.
أصل لغة «لا غوميرا»
تطابق البحث القائم على الحمض النووي الذي نشرته جامعة «لا لاجونا» في تينيريفي في عام 2019 بين سكان لا غوميرا الأوائل (الغوانش)، مع البربر (الأمازيغ)، حيث جاب هؤلاء السكان الأصليون مناطق شمال إفريقيا منذ أكثر من 3 آلاف عام وتواصلوا عبر صافرة؛ لذلك يُعتقد أن المستوطنين الإسبان في الجزيرة قاموا بتكييف لغة الصفير لسكان المنطقة الأوائل لتناسب لغتهم الأم.
وأغلب الظّن أن لغة لا غوميرا وجدت طريقها إلى جزر الكناري الأخرى خلال الغزو الإسباني الذي دام 3 سنوات، لكنها نجت فقط في جزيرة واحدة أخرى في جزر الكناري تُسمى «El Hierro»، حيث لا تزال الصافرة تستخدم في بعض الأحيان بين كبار السن المقيمين هناك.
طبقًا للمتخصصين، ساعدت التضاريس الجبلية لمنطقة لا غوميرا لهذه اللغة بالانتشار، نظرًا لتلبيتها لحاجة السكان في أن يشق الصوت طريقه عبر الوديان والجبال، حيث كان السكان يستخدمون هذه اللغة، المكونة من صافرات فقط، في إرسال رسائل مبطنة، مثل: طلب لإحضار المواشي، التحذير من خطر وشيك، أو حتى الإعلان عن حالة وفاة.
لماذا تراجعت اللغة؟
في الخمسينيات من القرن الماضي، استخدم سكّان لا غوميرا لغتهم بشكل موّسع لدرجة أنه غالبًا ما كان هناك طوابير من المزارعين الذين ينتظرون إرسال التعليمات عبر الوديان، ويعود ذلك لطبيعة التضاريس الصعبة، حيث لم يرغب أحد في التسلق صعودًا وهبوطًا عبر الوديان لتمرير رسالة، ولهذا السبب، كانت تحدث العديد من محادثات الصفير في نفس الوقت، وكان على الجميع انتظار دوره لاستقبال الرسالة الخاصة به.
مع حلول السبعينيات، تخلّى السكان المحليون عن أراضيهم الزراعية، كما غادر العمال وأصحاب الماشية الجزيرة، بالتالي، غادرت لغة الصفير الجزيرة معهُم، وربما كان للأسباب الاقتصادية التي دفعت السكان لمغادرة لا غوميرا دور رئيسي في اندثار هذه اللغة، حيث بحث الناس آنذاك عن ظروف اقتصادية أفضل، تتطلب الهجرة نحو بلاد أخرى، لا تستخدم الصفير كلغة بالطبع.
محاولة لإعادة الإحياء
بحلول التسعينيات، أدى صعود التكنولوجيا الحديثة وإدخال طرق ومسارات جديدة في لا غوميرا إلى إزالة التطبيق العملي للغة «سيلبو غوميرو»، مما جعلها تقترب من الانقراض.
تعتقد فرانشيسكا جونزاليس أنّه يجب حماية لغة الجزيرة، لأنها ليست مجرّد صافرات، بل هي جزء أصيل من الثقافة المحلية المرتبطة بالمناطق الجبلية والأودية، وتعريف بالاقتصاد الخاص القائم على الزراعة وتربية الماشية.
لذلك، لا تزال هنالك رغبة محليّة في إنقاذ هذه اللغة الفريدة الخاصة بـ«لا غوميرا»، خاصةً في الأماكن التي اقتحمتها عناصر التكنولوجيا، لأن الحقيقة تشير إلى بقاء بعض من السكان متمسكين بلغتهم الأصلية، لكنهم قلة، يعيشون بمناطق نائية جنوب الجزيرة، حيث لا تتواجد شبكات للهاتف المحمول، بالتالي فالصفارات هي طريقتهم الوحيدة لرعاية ماشيتهم بين الوديان.