مثلت صخرة دايتون بولاية كاليفورنيا الأمريكية لغزًا كبيرًا أثار الجدل بين العلماء، وحير الباحثين والمؤرخين عبر قرون، فما بين رسائل سرية ونقوش الفايكنج التاريخية، تتعدد النظريات لتفسير تلك الرسومات والأشكال الهندسية الغامضة، والتي استعصت على الحل حتى يومنا هذا، فما سر تلك الصخرة العجيبة؟
صخرة دايتون
تقع صخرة دايتون في مجرى نهر تونتون في مدينة بيركلي، وهي إحدى مدن مقاطعة ألاميدا بولاية كاليفورنيا الأمريكية، يبلغ ارتفاع الصخرة حوالي 5 أقدام، بينما عرضها 9.5 قدم، أما طولها فيبلغ نحو 11 قدما، وقد اشتهرت الصخرة بنقوشها المذهلة، إذ تحمل الكثير من الخطوط، الأشكال الهندسية، كذلك رسومات تخطيطية لأشخاص يقفون جنبًا إلى جنب، لم يتم التعرف عليهم أو تبين ملامحهم الذي عفا عليها الزمن.
هذه الرسومات والنقوش أثارت الجدل والكثير من التساؤلات، ودفعت العلماء والمؤرخين للبحث والتدقيق والقيام بعدة دراسات، في محاولة لمعرفة كنه الرسومات والتصاميم المنحوتة، التي يعود تاريخها إلى عدة قرون، والتي بدا لهم أيضًا أنها تحمل رسالة سرية بين طياتها.
اكتشاف مفاجئ
كان اكتشاف الصخرة أثناء بناء سد الوعاء، وهو عبارة عن هياكل مؤقتة يتم بناؤها لإبقاء الماء بعيدًا عن مواقع التنفيذ، مما يتيح تنفيذ البناء على الأسطح الجافة، هكذا وبعد أن شرع البناؤون في تشييد الهياكل، دُهشوا من الصخرة العملاقة التي أطلت عليهم من النهر، فهرعوا محاولين الاقتراب منها بحذر، خاصة بعد رؤيتهم النقوش والرسومات غريبة الشكل، التي نُقشت عليها.
رسائل سرية أم مجرد نقوش؟
بعد القيام بعدة دراسات وأبحاث، تكهن بعض العلماء بأن المنحوتات كانت رسالة سرية، تركها زوار الساحل قبيل رحيلهم، ربما كانت للاستغاثة من شيء ما، أو حتى لتدوين بعض ذكرياتهم، بينما رجح علماء آخرون أن ما دون فوق الصخرة كان بهدف إثارة وجذب انتباه المستكشفين البحريين، إلى هذه الصخرة العملاقة، وذلك أثناء مرورهم عبر مجرى النهر الذي يعج بالصخور.
وبحلول عام 1680 قام “القس جون دانفورث” بدراسة تفصيلية للرسومات والنقوش الصخرية، والذي قدم تقريرًا يتعارض مع التقارير الأخرى المقدمة في ذلك الوقت، ما أحدث تضاربًا واختلافا في الآراء، وفي عام 1690 قام القس “كوتن ميذر” بمحاولة أخرى لتحليل رسومات الصخرة، وهو قس بريطاني شهير ذو نفوذ اجتماعي، بالإضافة إلى أنه مؤلف وناشط سياسي، وقد ذكر خلال دراسته أن هذا النصب التذكاري يحمل في طياته لغزا محيرا، ونقوشًا عميقة للغاية، يصعب على أي شخص الوصول إلى كنهها مهما بلغ ذكاؤه، إذ توحي بأفكار غريبة تنم عن عقول بدائية وليست معاصرة.
الفايكنج مروا من هنا
خلال القرن التاسع عشر، تداولت العديد من الصحف الشعبية قصة الصخرة، كذلك بدأت الشخصيات العامة في الحديث وإدلاء الآراء، وعلى إثر ذلك تواصل الشاعر والناقد “جيمس راسل لويل” مع الصحف، متحدثًا عن ضرورة معرفة اللغة التي كُتبت بها النقوش، وقد عقب بهذا الصدد بعد العجز عن معرفة اللغة، حيث رجح أنها لغة أقرب إلى الهيروغليفية أو المسمارية، وبالتالي يمكن استخدام أدوات فك الرموز بطريقة جديدة، لاستنباط معنى مختلف.
وبحلول عام 1837 تم طرح واحدة من أكثر النظريات تأثيرًا، وإثارة للجدل أيضًا، وذلك من قبل العالم الدنماركي “كارل كريستيان رالن”، الذي اقترح أن المنحوتات تم نقشها بواسطة الفايكنج، وهم ملاحو السفن وتجار ومحاربو المناطق الإسكندنافية، الذين هاجموا السواحل الإنجليزية والفرنسية، وغزوا أجزاء أخرى من أوروبا في أواخر القرن الثامن إلى القرن الـ11، وذلك بهدف تخليد استكشافاتهم، وتوثيق المعارك والملاحم التي خاضوها خارج الديار.
وقد اختص بكلماته المستكشف “ثورفين كارلسفيني” Thorfinn Karlselne، الذي مثل الملحمة الإسكندنافية خلال رحلته إلى الساحل الشمالي الأمريكي، تحديدًا في منطقة تدعى “هوب” Hop، حيث أنجبت زوجته “جودريدا” ابنه “سنورو”، وقد أثارت نظرية رالن اهتمام “جمعية رود آيلاند التاريخية” والتي أشادت بنظريته وأجرت اتصالاتها مع بعض الباحثين من الدنمارك، حتى توصلوا إلى دليل أرشدهم إلى أن منطقة “هوب” تقع بالفعل على نهر تونتون. ومنذ ذلك العام كانت نظرية استكشافات الفايكنج، مقبولة عالميًا بنسبة كبيرة جدًا.
نظرية ديلاباري
بحلول عام 1916 طرح البروفيسور الراحل “إدموند بورك ديلاباري” نظرية مختلفة، بل وتتعارض كليًا مع نظرية الفايكنج، وكان ديلاباري باحثًا وأستاذًا في علم النفس في جامعة براون إحدى أعرق الجامعات الأمريكية، كما كان رائدا في مجال إدراك الشكل، والتفاعل بين العمليات العقلية والحركات اللاإرادية للجسم.
وجد ديلاباري خلال بحثه تناقضات جسيمة مع نظرية “رالن”، فأثناء دراسة النقوش وجد ديلاباري بعض الأحرف التي استطاع أن يستنبط منها اسم “Miguel Cortereal”، بالإضافة إلى التاريخ “1511” مكتوبًا بين السطور والعلامات، ما دفع Delebarre لافتراض نظرية مختلفة، وهي أن الرسالة اختصار لاتيني برتغالي يمكن ترجمته إلى “أنا ميغيل كورتريل، 1511، في هذا المكان بإذن الله، أصبحت رئيسًا للهنود”.
من هو ميغيل كورتريل؟
كان ميغيل كورتريل مستكشفًا برتغاليًا انطلق من لشبونة عام 1502، بهدف البحث عن شقيقه غاسبار الذي فقده قبل عامين بالقرب من نيوفاوندلاند، وعند نقطة الوصول تفرقت السفن الثلاث في اتجاهات مختلفة للبحث، وبعد مرور فترة وجيزة اختفت السفينة التي تقل ميغيل، ولم تظهر في الوقت المحدد لتجمع السفن، هكذا قامت السفينتان الأخريان برحلة العودة إلى البرتغال، بينما لم يرَ أحد ميغيل وسفينته مرة أخرى.
تكهن ديلاباري بأن ميغيل وصل إلى خليج ماونت هوب في عام 1502، بل وأرسل بعض الرجال أيضًا إلى الشاطئ بالقرب من موقع صخرة دايتون، ورجح ديلاباري أنه بمرور الوقت خاض معارك مع هنود “وامبانواغ”، أو ربما لأسباب أخرى انضم إليهم وتحالف معهم، وهكذا عاش بصحبتهم لسنوات مراقبًا سفن الساحل عن كثب منتظرا النجدة، ولكن بحلول عام 1511 وبعد أن تضاءلت آماله، قام بنقش الرسالة بغرض تخليدها على الصخرة للأجيال القادمة من بعده.
تعد نظرية ديلاباري من النظريات المقبولة على نطاق واسع في البرتغال فقط، ولكنها ليست مقبولة عالميًا، إذ انتقدها المؤرخ الأمريكي “صموئيل إليوت موريسون” بشدة، في كتابه الذي أصدره عام 1971، متحدثًا عن الاكتشاف الأوروبي لأمريكا، والرحلات الشمالية.
وأخيرًا أثارت هذه النظريات المتضاربة حماس الدولة وجهودها، ما دفعهم لحفظ صخرة دايتون في متحف صغير، بداخل حديقة صغيرة، أطلق عليها Dighton Rock State Park، كما تم إدراج الموقع عام 1971 في السجل الوطني للأماكن التاريخية (NRHP)، وأصبح الزوار والباحثون يتوافدون لرؤيتها على مدار العام، ولا تزال صخرة دايتون شفرة غامضة لم تفكّ حتى الآن.