محاولة مشاهدة كل المباريات المتاحة ستجعلك تشعر بالإرهاق وفقدان الاهتمام، ومن ثم يُصبح الكثير مما تشاهده مُملا ومُكررا. غابرييل ماركوتي، صحفي “ESPN”.
بهذه المُقدمة، ألمح الصحفي الإيطالي إلى احتمالية كون شعور بعض جماهير كرة القدم بالملل من رياضتهم المُفضلة حقيقيا. لكنه على أي حال، لم يظهر مهتما برأي الجماهير التي تقول أنّ هناك الكثير من كرة القدم؛ حيث يشبه ذلك بمحاولة القول أنّ هناك الكثير من مقاطع الڤيديو على منصة “تيك توك”. معلومة صحيحة، لكنّها لا تعني أي شيء.
بالفعل، مباريات كرة القدم لا تتوقَّف طوال العام، لكن هل يعني ذلك أنّ ما يُعرض على المشاهدين مُملا؟ وإن كان هذا الافتراض صحيحا، إلى من يجب أن نوجّه أصابع اللوم؟
كرة العصر
نحن -المدربين-، لدينا تأثير لا يُطاق، نمتلك أفكارنا الخاصة، ونقول أننا نتبناها لمساعدة الناس على فهم اللعبة. هذا هراء، يجب أن يفهم اللاعبون اللعبة كما يفهمونها. خوانما ليلو، مساعد بيب جوارديولا في مانشستر سيتي.
في مقال من كتابته، تحدَّث ليلو، أحد أهم منظري كرة القدم، عن وفاة الرياضة التي أحبَّها الجميع. طبقا لرأيه، كرة القدم في عصر العولمة أصبحت شيئا آخرا، لا يجرؤ حتى على تسميته، حيث أصبح اللاعبون متشابهون، والحصص التدريبية متماثلة، لا تختلف باختلاف المنطقة الجغرافية؛ فما يحدث في الكاميرون هو ما يحدث في البرازيل، لا جديد يُذكر، إلا في استثناءات نادرة.
يعزو ليلو هذا التماثل إلى هوس التحكُّم، الذي يُعد هو نفسه أهم أسبابه، الأمر الذي حوَّل لاعب كرة القدم من مُبدع إلى آخر هدفه اللعب من لمستين.
في البداية، كان الغرض هو رفع كفاءة الفريق ككل. بالفعل فرض النظام أنتج لاعبين جيدين، لكنّه قلّص احتماليات ظهور الاستثنائيين، وكأننا ونحن نبحث عن قتل الأشرار، قُمنا بقتل الأخيار أيضًا.
ما سرده هذا الأب النادم يمكن النظر إليه كتحليل للوضع الراهن وليس كانتقاد. كرة القدم لم تعد رياضة، بل صناعة متكاملة، وفي ظل السعي لجني أكبر العوائد وتفادي الكوارث الاقتصادية، بات منطقيا أن تبحث الأندية عن تحجيم عشوائية اللعبة، عبر تعيين مديرين فنيين هدفهم فرض إطار تكتيكي صارم، قد يحرم اللاعبين أحيانا من التعبير عن أنفسهم بحرية.
لهذا، باتت أشياء مثل المراوغة والتسديد من مناطق بعيدة رفاهية لا يحظى بها سوى لاعب كرة القدم المُتفرِّد، بعدما كانت “تجربة الحظ” جزء أصيل من ثقافة لاعب كرة القدم العادي.
الجمهور على حق؟
إرضاء الجميع غاية لا تُدرك. هذا ما لم يعترف به “فلورنتينو بيريز”، رئيس نادي ريال مدريد الإسباني، الذي يرى أنّ ملل الجماهير من كرة القدم الحديثة مرتبط في الأساس بمدى تنافسية المباريات التي يتعرَّض لها المشاهد على مدار العام، حيث وصف بعض من هذه المباريات، بمباريات ليست ذات أهمية.
بالطبع، كان بيريز، الرأس المُدبر للسوبرليغ، يسعى من خلال هذا الوصف للترويج إلى مشروعه الخاص، الذي يهدُف بالأساس لإعادة الجماهير التي عزفت عن مشاهدة كرة القدم، عبر تقديم بطولة يتنافس خلالها نخبة أندية كرة القدم حول العالم.
يرى مؤيدو السوبرليغ أنّ هذا الحل مثالي، لأنّ مباريات الأندية الكبيرة ستجذب اهتمام المتابعين أكثر من الجلوس أمام مباريات بين أندية متواضعة من حيث الجودة. وعلى الرغم من كل المآخذ التي قد تظهر بمجرَّد التفكير في احتمالية إنشاء دوري نُخبوي لكرة القدم، يظهر السؤال الأهم: هل تعود المُتعة ويرحل الملل بمجرَّد إضافة بطولة جديدة تتنافس خلالها نخبة أندية كرة القدم في أوروبا؟ الإجابة هي قطعا لأ.
لماذا نحن هنا؟
كثرة الشيء لا تعني دومًا جودته. إيان هولواي، المدير الفني السابق لكريستال بالاس الإنجليزي.
دعنا نبدأ بالبديهيات، طبقا لـ”إندبندنت” البريطانية، تبلغ حزمة إيرادات البث التلفزيوني الخاصة بالدوري الإنجليزي الممتاز والتي تبدأ من 2025 وتنتهي في 2029 نحو 9 مليار دولار. وهو رقم ضخم بالفعل، مقارنةً بباقي الدوريات، لكنّه يتطلَّب أن تلعب الأندية الإنجليزية نحو 400 مباراة، في حين تحصد رابطة الـNFL رقمًا مماثلًا عن طريق لعب فرقها لما يقرب من 270 مباراة فقط طوال الموسم.
هذا العدد الضخم من المباريات لا يُمكن النظر إليه كرقم فقط، لأنّه يعني ارتفاع عدد مشاركات اللاعب الواحد في كل مباراة بالموسم الرياضي، وبما أننا نتحدَّث عن صناعة، هدفها الأول الحفاظ على أهم عناصرها، ارتفعت نسبة ما يُعرف بـ”المباريات الميتة”؛ وهي المباريات التي يخوضها لاعب كرة القدم بأداء تجاري خوفًا من التعرُّض للإصابات.
حسب ديف كارولان، مدير قسم الصحة والأداء في نادي ميلوال الإنجليزي، حاليًا، يركض لاعب كرة القدم أكثر، يلعب بحدة أعلى، لكنّه ليس في أفضل حالاته الذهنية بسبب ضغط المباريات. وهو ما يجعل المُتعة مقتصرة على مباريات مُحددة، لاستحالة استدامتها في ظل مشاركة لاعب النخبة في 60 مباراة كل موسم.
في عالم كرة القدم المتطوِّر، لا يكفي الفوز فقط، تريد الجماهير الترفيه، وهو ما أصبح أصعب من أي وقت مضى.
يؤكد طبيب النفس الرياضي جيريمي سناب على حق الجماهير في المطالبة بتجربة مشاهدة ممتعة، لكنّه كمُنخرط في المجال يعلم صعوبة تحقيق ذلك، فالاستنزاف البدني والذهني الذي يتعرّض له لاعب كرة القدم حاليًا يعني تحوله لرياضي يحاول التأقلم وليس التفوُّق.
بنفس الصدد، شرح البروفيسور فينسنت والش، بروفيسور علوم الدماغ بجامعة لندن ماذا يعني هذا التأقلم، حيث أشار إلى أنّ تعرُّض اللاعبين لفترات طويلة من الضغط الذهني والبدني يجعلهم أقل قدرة على اتخاذ مخاطرات. بالتالي يظهر اللاعب في بعض المباريات كموظَّف ينتظر صافرة الحكم. وهذا بالضبط نفس الشعور الذي يتملَّك مشجع كرة القدم أثناء مشاهدته لمباراة مملة.
المصادر:
2- تحليل بديل لكأس العالم من قبل الرجل الذي ساعد في تشكيل سيتي جوارديولا (ذي أثلتيك)
3- كرة القدم ترهق الجماهير ومحطات البث (فاينانشيال تايمز)
4- لا تشعر بالمتعة؟ ضريبة أجندة كرة القدم المزدحمة (ذي أثليتيك)
5- إرهاق المباريات: ماذا يحدث للاعبين عندما تتراكم المباريات؟ (ذي أثليتيك)