رياضة

لوكا مودريتش.. الأمير بقلم دوستويفسكي

إن تلك الحالة من عدم اليقين ومن النفرة تجاه المجهول الذي سيحين حينه كانت رهيبة فظيعة. قال: ليتني أستطيع ألا أموت، ليت الحياة تُرَد إليّ! ما أعظم تلك الأبدية التي سأنعم بها إذا ما أمكن ذلك! لأحيلن كل دقيقة دهرًا، ولأحصين جميع الدقائق لا أضيع منها واحدة. وقال: إن هذه الفكرة قد صارت آخر الأمر إلى نوع من الجنون، حتى أصبح لا يتمنّى إلا أن يُطلق عليه الرصاص. 

فيودور دوستويفسكي، «الأبله». 

في روايته “الأبله”، وصف دوستويفسكي الدقائق التي سبقت نجاته من الإعدام، هذه التجربة التي تأثَّرت كتاباته بها، بل وشخصيته كذلك، حيث تحوَّل منذ هذه اللحظة وحتى وفاته لشخصٍ آخر، أكثر حكمة من ذلك الذي انضم لمجموعة “بيتراشيفسكي” بمنتصف القرن الـ19. 

 بالتأكيد، لم يكن دوستويفسكي مهتمًا بركض أحد عشر رجلًا بالغًا حول كرة من الجلد، كما لا يمكن أن نجزِم أن لاعبًا كرواتيًا وُلد بعد نحو قرنٍ من الزمان قد قرّر أن يستمِد شخصيته من كتابات حكيم روسّي. 

لكن المفارقة هي أن قصة لوكا مودريتش، لاعب كرة القدم، تصلُح بالفعل كمرآة تعكس نظرة دوستويفسكي للحياة، أو هكذا نعتقد. 

طفل الحرب 

لوكا مودريتش

“الألم والمعاناة أمران لا مفر منهما للوصول إلى ذكاءٍ كبير وقلب عميق”. 

دوستويفسكي، كتاب «مذلون مهانون». 

لم يكُن مودريتش قد أتم عامه الـ6 حين تعرَّض للصدمة الأولى في حياته، حين قُتل جدَّه «لوكا» بأيدي من وصفهم بـ”قوات الشيتنيك” الصربية. في الواقع، كان لوكا الصغير كانت قد تمّت تسميته على اسم جدّه، فأضحى صديقه المُفضَّل، الذي يمضي معه أوقاتًا طويلة برحلات الصيد، أو تربية الدواجن. 

ظلَّت هذه القصة محفورة داخل عقل مودريتش، الذي تذكَّر تقبيله لجبهة جدِّه قبل توديعه للأبد، كما يتذكَّر هول الحرب التي اضطرته وأسرته للنزوح إلى أحد مخيمات اللاجئين في ماكاراسكا، ثم إلى أحد فنادق زادار، حيث لجأ معظم هؤلاء الذين دمرت حرب الاستقلال حياتهم. 

المُفارقة هي أن مودريتش، الذي كان طفلًا آنذاك، لا يزال يشعر بالحزن تجاه كل ما حدث، ولكنه مع ذلك، لا يحمل كراهية تجاه أي من أطراف الصراع، الذي دخله مغصوبًا، لا مُخيرًا. 

ربما، عاش لوكا مودريتش ألم ومعاناة دوستويفسكي، اللذان شكلا شخصيته حسب رأيه:

  هذه الأشياء يمكن أن تجعلك أكثر قوة أو يمكن أن تكسرك. اخترت الطريقة الأخرى، اخترت أن أصبح أكثر قوة لخلق شخصيتي.  نعم، لقد كان هناك الكثير من الخوف ولكن عليك التأقلم. الأشياء التي حدثت جعلتني أقوى. عندما تمر بما مررت به، يكون من الأسهل بكثير قبول بعض الأشياء التي تحدث في حياتك لاحقا، من ناحية كرة القدم أو الهزائم أو النقاد أو هذا أو ذاك. 

أفضل “أسوأ” لاعب في العالم 

لوكا مودريتش

يحتاج الأمر لأكثر من مجرّد الذكاء حتى تتصرّف بطريقة ذكية! 

نيقولاى برديائف، كتاب «رؤية دوستويفسكي للعالم».  

تألّق لوكا مودريتش، وبات أحد أهم اكتشافات يورو 2008. وقتئذٍ، تصارعت الأندية على ضَم كرويف البلقان، الذي وجد طريقه من ويلات الحرب إلى دينامو زغرب، ثم إلى منتخب كرواتيا الأول، متسلحًا بموهبة خارقة، جعلت من جسده الصغير أزمةً يُمكن التغاضي عنها. 

آنذاك، كان  لوكا مودريتش على رادار أرسنال الإنجليزي، لكنّ النادي الإنجليزي تراجع عن إبرام الصفقة بعدما أعلن مديره الفني أرسين فينجر عن قلقه بشأن قدرة لوكا على التأقلم مع طبيعة الدوري الإنجليزي. 

لم يتوقَّف الأمر هنا، حسب “بويان كريكيتش الأب”، والذي كان يعمل ككشاف لصالح نادي برشلونة، اجتمع العملاق الإسباني مع اللاعب الكرواتي في نفس الفترة، لكن على الرغم من إعجاب معظم المسؤولين بقدراته وعقليته، رفض مجلس الإدارة إتمام الصفقة، بحجة امتلاك الفريق لأفضل خط وسط بالعالم. لينتقل اللاعب أخيرًا لتوتنهام الإنجليزي. 

هناك، كان على لوكا مودريتش دحض الشكوك، خاصةً بعد فترة أولى سيئة، كان اللاعب مضطرًا خلالها اللعب كجناح، الأمر الذي رسَّخ سردية ضعف قدراته البدنية، لكن ومع دخوله لعمق الملعب، اتضح أنّه ينتمي لفئة اللاعبين الكبار، الذين يسعى ريال مدريد دائمًا لضمهم. 

في مدريد، وبعد عامه الأول، شككّت الصحافة مجددًا في قدرات لوكا، بل وصفته إحدى الصحف المحسوبة على برشلونة بأسوأ تعاقدات العام. 

“كان هناك دائما الكثير من الشكوك حولي – حول جودتي وأسلوبي ولياقتي البدنية”

لوكا مودريتش، سبتمبر 2020. 

بالفعل، اعتمد مودريتش على ما يتخطى الذكاء أهمية، تمامًا كما نصح دوستويفسكي، وهو التجاهل.  منذ وصوله لمدريد قرّر أن يتجاهل الصحافة والإعلام، مرتكزًا على نُصح دائرته المُقرّبة، والتي كانت كافية بالنسبة له ليصل إلى التتويج بجائزة أفضل لاعب بالعالم، وحصد فضيّة كأس العالم 2018. 

عن موهبة لوكا مودريتش، قال خورخي فالدانو ذلت مرة:

 حين تختفي المساحات فجأة، -وهو أمر غريب؛ نظرًا لمساحة ملعب كرة القدم الشاسعة-، يظهر الجميع وكأنهم في عجلة من أمرهم، كما لو كان الملعب بأكمله منطقة جزاء. 

هنا تظهر معجزة مودريتش، يجد متنفسًا للجميع. لنكتشف فجأة أن الزمان والمساحة موجودان، وأن كل ما هو مطلوب هو شخص لديه الموهبة لإعادتهما مجددًا.

بهذا، تحوَّل لوكا من فتى الحرب اللاجئ، لأعظم لاعب كرواتي في التاريخ، وهذه هي قصتنا الأخيرة. 

خلاف واتفاق 

لوكا مودريتش

في كتابه «يوميات كاتب» اعتبر دوستويفسكي أن الحرب هي أكثر الطرق فاعلية لتوحيد الطبقات الاجتماعية المتطاحنة في روسيا، وكرَّر آراءه السابق نشرها من اعتباره أن الحرب وسيلة تُمكن روسيا من إعادة صياغة العالم وجعله مكانًا أفضل لـ«الضعفاء والمضطهدين».

بالطبع، تختلف هذه النظرية تمامًا مع رؤية لوكا مودريتش للحرب، حيث يرى أن الحرب لا تجلب شيئًا جيدًا لأي إنسان. ومع ذلك، عند نقطة ما، يلتقي مودريتش والأديب الروسّي: التعصُّب للوطن. 

يعتقد صحفي كرة القدم الكرواتي سردان فابياناك أنّ أهم ما يميِّز أجيال كرة القدم المتلاحقة منذ كأس العالم 1998 هي معاناتهم مع ويلات الحرب، وانعكاس ذلك على أدائهم كرياضيين. 

في كرواتيا، تتم معاملة اللاعبين كأبطال قوميين، وربما هذا هو السبب الذي يدفع اللاعبين في تقديم أداءٍ يفوق حدود قدراتهم. 

يعتقد مودريتش، الذي وصل لعامه الـ37، أنّه على الرغم من كل إنجازاته، ومسيرته الحافلة بالألقاب، يظل اللعب لمنتخب كرواتيا أفضل لحظات حياته. 

سوف تحترق، وستخبو، وستُشفى وتقف على قدميك من جديد. 

دوستويفسكي. 

في النهاية، ربما شكّلت الصدمات المتتابعة حياة لوكا مودريتش، تمامًا كما تأثرت كتابات دوستويفسكي بما عاناه، لكّن ربما اتخذ كلاهما من الألم دافعًا للاستمرار. 

“طوال حياتي، طوال مسيرتي، كل ما فعلته هو القتال بقوة”. 

لوكا مودريتش. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى