دعنا نبدأ بإثارة القليل من الجدل، ماذا لو أخبرتك بأن ليونيل ميسي، أسطورة الأرجنتين وبرشلونة السابق أعظم من راوغ في تاريخ كرة القدم؟ من حقك بالطبع أن تعترض، لكن ليس قبل أن أخبرك بأنه ليس الأفضل وحسب، لكن -بشكل ما- لعبت العوامل الوراثية دورا ليكون كذلك.
ليونيل ميسي.. سكين يمُر بالزبدة
لا تقلق، لن نبدأ في سرد الأرقام الخاصة بالبرغوث الآن، ولن نتطرق لمدى قدرته على حمل فريق بحجم برشلونة على كتفه -سابقًا- كما لن نعقد مقارنةً بينه وبين أحد هؤلاء المنتمين للمعسكر الآخر، يبدو أنك فهمت من أقصد، كريستيانو رونالدو بالطبع. باختصار سيتمحور حديثنا حول شخص واحد فقط، ليونيل ميسي.
عقب الذهاب إلى أي من المقاطع المصورة التي تكتظ بها منصة المقاطع «يوتيوب»، وبعد عددٍ من النقرات أثناء البحث عن ملخصاتٍ لأفضل مراوغات البولجا، ستجد أن العبارة الأولى التي تتبادر لذهنك بمجرد مشاهدة ميسي يتخطى خصومه هي السكين داخل الزبدة، لتبدأ في التساؤل، كيف فعل ذلك؟ هل قدرته على المراوغة فطرية ووراثية؟ أم أنه شيء يمكنك تعلمه؟ إذا كانت الإجابة هي التعلُّم، فهل يمكن لعلوم الرياضة فك شفرة قدرات ميسي وإنشاء خط لإنتاج فريق كامل من مَن يشبهونه؟
لن تجد أي مقالة تتعلق بقدرة ليونيل ميسي الرياضية دون محاولة من كاتبها لمعالجة الجدل حول فكرة «الطبيعة مقابل التنشئة»، وذلك لأن اللاعب نفسه كان في طريقه لأن يُحرم من ممارسة اللعبة بسنٍ مبكرة، بحجة أنه أصغر من أن يتحمّل ما تتطلبه لعبة بدنية مثل كرة القدم من قدرات جسمانية، ويرجع ذلك بكل تأكيد للمشكلات الهرمونية التي عانى منها فتى روزاريو قبيل استقدامه لكاتالونيا، والتي جعلت المتخصصين الطبيين البارزين يتوقعون أنه لن يزيد طوله على 4 أقدام و7 إنشات على أقصى تقدير.
رُب ضارة نافعة
طبقًا لبحث نشرته المجلة البريطانية للطب الرياضي، فأداء نخبة الرياضيين المتميز يُفهم على أساس أنه نتيجة لكل من التدريب والعوامل الوراثية، وهذا يعني ضمنيًا، أن ميسي تطور كلاعب شاب بينما كان يعاني من العوامل الوراثية بشكل كبير، حيث كان أصغر بكثير وأقل نضجًا جسديًا من زملائه في الفريق، لذلك يمكن القول إن جانب التدريب من تطوره تم تعويضه في ضوء عيبه الوراثي.
من الناحية النظرية يمكن الموافقة على ذلك الطرح، فقد يكون للظروف الغريبة التي نشأ فيها دور محوري في إنتاج مايسترو المراوغة؛ بحيث تتحسن المهارة، القدرة على التحمل، التوازن، السرعة وخفة الحركة بشكل كبير فقط ليتم تعزيزها كيميائيًا عن طريق العلاج الهرموني الذي ساعده على النمو.
وهذا ما يزعُم كارليس ريكساش، المدير الرياضي الأسبق للبلاوجرانا الذي وقع مع ميسي أول عقد بحياته (على ظهر منديل ورقي)، أنه صحيح، حيث آمن منذ اللحظة الأولى التي رأى بها ليونيل يلعب أنه طفل معجزة، يلعب وكأنه صُمم وبداخله «مكابح يد جينية»، لكن ولأننا جميعًا نكره عبارات الإشادة المُرسلة، وإن كانت مستحقةً، لدينا بعض الأدلة التي تستحق الاطّلاع.
“اقرأ أيضًا: حرب كرة القدم وحكاية هدف أشعل النار بين دولتين”
السرعة والقدرة على التحمُّل
يتميّز أي لاعب كرة قدم مراوغ بخاصيتين متلازمتين، وهما السرعة والقدرة على التحمُّل، حيث لا يمكن أن يتخلى أي مراوغ عن أحداهما مقابل الأخرى، دون التطرّق بالطبع للموهبة التي تعتبر شرطًا أساسيًا.
بهذا الصدد، وجدت الأبحاث التي أجراها علماء من كلية العلوم الإنسانية في جامعة «جون مورس» في ليفربول في المملكة المتحدة أن أنماط الحركة غير التقليدية مثل الركض للخلف والجانب، التسارع والتباطؤ، وتغيير الاتجاه تبرز ما يعرف بـ«التحميل الأيضي».
ببساطة، الطريقة غير المتوقعة التي يركض بها ليونيل ميسي أثناء حمله للكرة حول الخصم يمكن القول إنها أكثر إرهاقًا بكثير من الركض مباشرة على الجناح، ويدعم بحث نُشر في مجلة Research Quarterly for Exercise» «and Sport بعنوان «التكلفة الفسيولوجية الصافية لمراوغة كرة القدم» نفس الفكرة، والتي خلصت إلى أن المراوغة بالكرة تزيد بشكل كبير من تكلفة الطاقة ومجهود الحركة الملحوظ، بالإضافة إلى ارتفاع اللاكتات بالدم.
يشير مصطلح «لاكتات الدم» إلى تراكم حمض اللاكتيك في العضلات، وهو الإحساس بالحرقان الذي تشعر به أثناء نوبات التمرين المكثف ويتبعه التعب وانخفاض الأداء، بالتالي يدعم هذا مرة أخرى النظرية القائلة إن المراوغة الرائعة باستخدام الكرة لن تستمر دون أن يكون الرياضي نفسه يتمتع بقدرٍ ضخم من السرعة والقدرة على التحمل في سياق خاص بكرة القدم، وليس فقط بالاعتماد على موهبته.
لذلك، وعند إعادة النظر في الجدل حول الطبيعة مقابل التنشئة حول ميسي، هل يمكن أن يكون هذا الجزء من لعبته قد تحسن كثيرًا إلى ما هو أبعد من أي شخص آخر بسبب حجمه الصغير؟
موهبة لا علاقة لها بكرة القدم
وفقًا لمجموعة من العلماء من قسم علوم الرياضة بجامعة «بيرا» البرتغالية، فالقوة اللاهوائية (السرعة) تتأثر بنسبة تتراوح ما بين 30% إلى 90% بالعوامل الوراثية، وذروة امتصاص الأكسجين (التحمل) بتأثير بنسبة تتأرجح ما بين الـ40% لـ70% بالعوامل الوراثية أيضًا.
وذلك ينقلنا إلى أولى الإجابات بشأن التساؤل حول مدى براعة ليونيل ميسي في المراوغات، على الأقل نظريًا، فمن الواضح أن ميسي كان موهوبًا بشكل طبيعي بالتحمل والسرعة، وليس فقط الطول والهيكل العظمي الجيد.
ولكن بمجرد تصحيح هذا الأمر هرمونيًا من قبل الفريق الطبي لبرشلونة، فمن الممكن أن تعمل العوامل الوراثية و”التدريب” معًا لإنتاج أداء النخبة.
الفاعلية
بالعام 2014، وفي أعقاب خسارة برشلونة على يد نظيره الإسباني أتليتيكو مدريد بربع نهائي دوري أبطال أوروبا، ربط ديرموت كوريجان، محلل شبكة «ESPN»، بين خسارة النادي الكاتالوني وبين انخفاض معدلات ركض ليونيل ميسي داخل المباراة، معتبرًا أن الإحصائيات التي أظهرت أن ميسي كان أقل لاعبي الفريقين ركضًا إشارة واضحةً لافتقاده للفاعلية أمام المرمى، وبالتالي خسارة فريقه.
بعيدًا عن طرح كوريجان، امتلك «تاتا مارتينو»، مدرب برشلونة آنذاك، تبريرًا منطقيًا وفنيًا للحالة التي ظهر عليها ميسي بهذه المباراة، والتقطتها الإحصائيات بسهولة، وتلخّص تفسير المدرب الأرجنتيني في أنه كان يريد من لاعبه أن يتعرّض لالتحامات أقل مع الخصم المعروف بلعبه الخشن، بالتالي كان مطالبًا بالاكتفاء بالبقاء على الجناح، بينما كانت مهمة الفريق تتلخص في السماح له بالحصول على وضعية رجل لرجل على الخط.
لكن بغض النظر عن مبررات تاتا الذي لا يمكنه انتقاد ميسي علانيةً، وبغض النظر عن أرقام كوريجان البديهية بالنظر إلى تاريخ ميسي من حيث معدلات الركض، ربما نمتلك إجابة أكثر منطقية، وهي إدراك ميسي الحقيقي لقدراته، حيث إن الركض بمعدلات أكبر بشكل مجرّد لا يعني الإرهاق طبقًا لبحث جون مورس، بالتالي فاللاعب لا يختزل مجهوده سوى لعلمه المسبق بأن مراوغاته (التي غالبًا ما تكون فعّالة) تحتاج للكثير من المجهود. وقبل أن تتهمنا بالتحيُّز، لا نعلم إذا هذا ما يدور في عقل ميسي أم أنها مجرد استنتاجات.
آخر الإجابات.. الميكانيكا الحيوية
في اختبار سابق، تمكّن البرتغالي كريستيانو رونالدو من التغلُّب على عدّاء إسباني يدعى «أنخيل دفيد رورديغيز»، في سباق «متعرج»، بفضل قدرته على أداء الحركات الجانبية، وكانت هذا التحدي وغيره ضمن وثائقي جاء بعنوان «كريستيانو رونالدو.. اختبار الحد الأقصى»، لكن ما علاقة هذا بليونيل ميسي؟
بشكل أساسي، يتمتع لاعبو كرة القدم بخطوة جري قصيرة ومركز ثقل منخفض، يمكنّهم من أن يبطئوا سرعتهم فجأة، يغيروا حركاتهم، كما يمنحهم القدرة على التسارع مجددًا، بشكل أكثر تحكمًا من لاعبي الرياضات الأخرى، وربما من الواضح أن رونالدو الذي يزيد طوله على 6 أقدام، كان عليه أن يتكيف مع خطوة جري قصيرة، ولكن بالنسبة لميسي؛ فإن مركز جاذبيته المنخفض، خطوته القصيرة وخفة حركته، هي أمور موروثة، تجعله أسرع من غيره خاصةً عند استحواذه على الكرة.
ختامًا؛ ربما تعد كرة القدم إحدى أكثر الرياضات تعقيدًا، وما زالت هنالك شكوك حول ما إذا كانت العلوم الإنسانية قادرة على تفسير موهبة وقدرة أي لاعب بشكل أكاديمي ممنهج، إلا أنه بالنظر للمعلومات التي ورد ذكرها، يمكننا القول إن العوامل البيئية والوراثية غير العادية كان لها دور في إنتاج ليونيل ميسي، أحد أعظم المراوغين في كرة القدم، إن لم يكن أعظمهم.