شعب واحد، رايخ واحد، فوهرر واحد.
كان هذا باختصار شعار الإمبراطورية الألمانية خلال حقبة سيطرة الحكم النازي، الذي استولى وسيطر على معظم جوانب الحياة داخل البلاد التي ضمّها “الرايخ الثالث”.
كانت الرياضة أحد تلك الجوانب التي تم السيطرة عليها، حيث أراد أدولف هتلر من خلالها أن يؤكد على سمو العرق الآري، عبر ما يمكن وصفه بالجدارة الرياضية، فكيف حدث ذلك؟
اللحظة الفاصلة
عام 1934، قام الحزب النازي بتكوين الرابطة الاشتراكية الوطنية للرايخ للتدريب البدني، والتي كانت المظلة الحكومية للرياضة بألمانيا، التي تسعى في المقام الأول لتحسين الروح المعنوية والإنتاجية للعمال الألمان.
من جهة أخرى، سعى أدولف هتلر لاستخدام الرياضة في إثبات تفوق العرق الآري، وربما كانت أولمبياد بيرلين عام 1936 لحظة فاصلة، حيث تحطمت سردية التفوق الألماني عندما استطاع العداء الأمريكي من أصول إفريقية، جيسي أوينز، في تحقيق 4 ميداليات أولمبية تحت أنظار الفوهرر نفسه.
في الواقع، لم يكن الزعيم النازي مهتمًا بكرة القدم، بل لم تكن هذه الرياضة من الأساس جزءً من بروباجاندا الحزب النازي. ومع ذلك استرعى تفوُّق منتخب ألمانيا على نظيره اللوكسمبورجي بتسعة أهداف بالأولمبياد اهتمام هتلر، قبل أن يقرر حضور مباراة الفريق أمام النرويج بالدور ربع النهائي من مسابقة كرة القدم، برفقة لفيف من كبار القادة أمثال جوزيف جوبلز، وزير الدعاية، وهيرمان غورينغ، قائد قوات الطيران الألمانية، ورودولف هيس، أحد الأعضاء البارزين بالحزب النازي.
بشكل غير متوقع، انتهت المباراة بفوز نرويجي بثنائية نظيفة، وإحراج متجدد لأدولف هتلر الذي لم يستطع رياضية إثبات أفضلية العرق الآري كما كان متوقعًا.
النمسا.. فريق العجائب
طبقا للإيطالي ستانيسلاو جي بوغليس، أستاذ التاريخ في جامعة هوفسترا الأمريكية، سعت الأنظمة الفاشية في كل من ألمانيا وإيطاليا إلى التتويج بكأس العالم 1938، لكن ما حدث، هو أن منتخب ايطاليا المتوج بكأس العالم الأخيرة كان جيدًا بما فيه الكفاية ليبقى مرشحًا لحصد اللقب الثاني تواليًا، حتى وإن كان حصد اللقب تشوبه الكثير من علامات الاستفهام حول مدى تدخل الزعيم الإيطالي الفاشي موسوليني في مسيرة المنتخب الإيطالي.
بمطلع عام 1938، كانت الحكومة الألمانية قد قررت دعم الحزب النازي النمساوي، أملًا في انتزاع السلطة من حكومة الجبهة الوطنية النمساوية، بينما قوبل هذا الدعم بتأييد شعبي شبه مُطلق، انتهى بعملية “أنشلوس”، وهي عملية عسكرية سياسية، تم بموجبها ضم النمسا لألمانيا الكبرى، تحت شعار “العودة إلى الرايخ”.
امتلكت النمسا في الثلاثينيات من القرن الماضي فريقا عظيمًا، نجح في احتلال المرتبة الرابعة بكأس العالم 1934، واستطاع أن يبصم على سلسلة من عدم الخسارة لعامين كاملين، تخللها انتصارات على ألمانيا نفسها، لذا، كان الجمهور النمساوي متعلقا بفريق كرة القدم الخاص به.
حقيقةً، لم يقتصر الأمر على عدم اهتمام النمساويين بالتأصيل للألمان، بل كان الأمر مقترنًا بتفضيلهم لأسلوب اللعب النمساوي، الذي كان يتميز بالحركة والتمريرات القصيرة وتعزيز المهارات الفردية. كان أسلوب اللعب هذا تقنيًا وسلسًا وسمح بمزيد من الإبداع. إلى حد بعيد، فضلت عقلية كرة القدم النمساوية اللعب الجيد واعتبرت ذلك أكثر أهمية من الفوز.على عكس الكرة الألمانية، التي اتسمت بالأسلوب الخشن والمباشر الذي يشبه الآلة إلى حد بعيد.
بعد ضم النمسا للإمبراطورية الألمانية، تم إنهاء عمل الاتحاد النمساوي لكرة القدم كمنظمة مستقلة بعد بضعة أسابيع، وأعيد تشكيله كجزء من سلطات كرة القدم الألمانية. بالتالي انتهت آمال مشجعي ولاعبي النمسا في تمثيل بلادهم في كأس العالم 1938.
في نفس الوقت، أدركت السلطات الألمانية أن طمس الهوية الكروية النمساوية سيكون بمثابة خطأ لا يغتفر، والأفضل أن يتم الاستعانة بأفضل لاعبي المنتخب النمساوي لتمثيل المنتخب الألماني -الأضعف تقنيًا- بشكل واضح، إذا ما أرادت ألمانيا المنافسة على كأس العالم.
بروباجاندا أدولف هتلر
في أبريل 1938، وبعد أسابيع قليلة من عملية الأنشلوس، اقترح مسؤولو كرة القدم الألمان إقامة مباراة بين ألمانيا والنمسا. وكان هناك سببان رئيسيان لتقديم هذا المقترح. السبب الأول هو رفع الروح المعنوية والشعور بالترابط بين الشعبين النمساوي والألماني باستخدام الرياضة الشعبية الأولى في فيينا، حين كان السبب الثاني والأهم؛ هو إتاحة الفرصة لسيب هيربرجر، المدير الفني لمنتخب ألمانيا، لاكتشاف أبرز لاعبي منتخب النمسا من أجل ضمهم للمنتخب الألماني الساعي للتتويج بكأس العالم بعد أشهر معدودة.
كان ماتياس سيندلار، مهاجم النمسا، أحد أهم نجوم فريق العجائب، لكنه كان أحد القلائل الذين رفضوا فكرة الانضمام، حيث النموذج القومي النمساوي. لذا حين سنحت له الفرصة لزيارة شباك ألمانيا في المباراة المقامة في فيينا، لم يتوان عن ذلك، بل حسب بعض المصادر قام بالاحتفال برقصة مستفزة بمنتصف الملعب الذي شهد حضور عددا لا بأس به من قادة الحزب النازي.
هدف لا يغتفر
يعتقد أن المباراة التي كانت مجرد وسيلة للدعاية المتعلقة بمشاعر الود والصداقة بين الشعبين الألماني والنمساوي تحولت بشكل ما إلى سردية تغذي الروح الوطنية والهوية النمساوية.
Matthias Sindelar was one of the greatest footballers of the 1930’s, but when the Nazis annexed Austria, he sacrificed his career by refusing to play for Nazi Germany.
As a result, he died at 35 years old of “carbon monoxide poisoning.”@Etothe2power:https://t.co/t6XSdO4uuj pic.twitter.com/7WK1puVTPU
— Breaking The Lines (@BTLvid) July 17, 2020
أضحى ماتياس سيندلار بدوره رمزًا للمقاومة، خاصة بعدما رفض تمثيل منتخب ألمانيا النازية بكأس العالم 1938، معللًا ذلك بوصوله لسن الـ35. بينما صرّح سيب هيربرجر، الذي حاول إقناعه بتمثيل ألمانيا أنّه استشف أنّ السبب الحقيقي لرفض سيندلار، أو الرجل الورقي، يعود بالأساس إلى عدم ارتياحه للتطورات السياسية التي اتخذتها حكومة الحزب النازي بقيادة أدولف هتلر في حق النمسا.
في النهاية، استدعى هيربرجر 9 لاعبين نمساويين لمعسكر الفريق المتوجه لكأس العالم، بينما أشارت المصادر التاريخية إلى أن المعسكر لم يكن مثاليًا، حيث كانت التوجيهات السياسية الدعائية واضحة؛ بوجوب مشاركة لاعبين نمساويين في التشكيل، ما أدى إلى خلق حالة من القلق والتوتر داخل غرفة الملابس.
في يونيو 1938، وصل المنتخب الألماني/النمساوي إلى فرنسا، وتحديدًا لملعب بارك دو برانس، حيث واجه بالدور الأول منتخب سويسرا. وبشكل غريب، خسرت ألمانيا في مباراة الإعادة بهدفين نظيفين.
هل تعمد اللاعبون الخسارة؟ لا نمتلك دليلًا على ذلك، لكن الأكيد أنهم لم يلعبوا بالشكل المعتاد.
ستانيسلاو بوغليس، أستاذ التاريخ في جامعة هوفسترا.
كان ماتياس سيندلار قد بدأ حياة جديدة، حيث ابتاع متجرًا لتقديم القهوة مغلقا باب العودة لكرة القدم. وبعد مرور نحو عام، وتحديدًا في يناير 1939، عثر على جثة اللاعب السابق بجانب زوجته بمقر إقامتهما بوسط المدينة، وخلص تحقيق الشرطة إلى أن الزوجين توفيا بسبب التسمم بأول أكسيد الكربون، حيث تم العثور على مدخنة مسدودة، وتم إلقاء اللوم على سوء الصيانة. وبالتأكيد قلة الذين صدقوا الرواية الرسمية.
بغض النظر عن الرواية الرسمية، تباينت التوقعات والشائعات حول حقيقة وفاة سيندلار. فمثلًا؛ اعتقد أدباء المقاهي اليساريين أنّه انتحر بسبب اليأس الذي أحاط بمصير النمسا، بينما ذهب البعض لما هو أبعد من ذلك، حيث اتهموا الجستابو بتصفية اللاعب السابق، الذي سبق له وأن أحرج ألمانيا مرارًا.
نهايةً، وبغض النظر عن حقيقة ما حدث مع ماتياس سيندلار وزملائه بفريق العجائب، فكل ما حدث لا يشير سوى لحقيقة واحدة، وهي فشل أدولف هتلر في الدعاية لألمانيا النازية، أو بمعنىً أوضح، لم يكُن هذا الفشل المتكرر على نطاق ضيق مثل كرة القدم سوى رسالة تحذيرية للفوهرر، الذي ربما لم يقرأ الرسالة جيدًا.