سعت الحملات والرحلات الاستكشافية على مر السنين -بقيادة أشهر العلماء والمؤرخين- إلى محاولة كشف لغز جيش قمبيز المفقود، أو الضائع كما يطلق عليه البعض، والذي أثير العديد من الشائعات والأقاويل حول سر اختفائه في صحراء مصر، عندما كان في طريقه إلى سيوة لهدم أحد المعابد، إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل، ما جعل الأمر معقدًا للغاية، وبات لغزا لم يُعرف سره حتى الآن.
الطريق إلى مصر
أراد الإمبراطور الفارسي (قمبيز) الاستيلاء على مصر، في عام 524 قبل الميلاد، بل أراد أيضًا أن يتم تنصيبه كملك مصري، ما جعله بصدد مواجهة عنيفة مع كهنة (معبد وحي آمون) الأقوياء، والذين لم يرتضوا منحه تلك الشرعية التي لا يستحقها، الأمر الذي أثار غضب قمبيز وجعله يعد العدة ويبدأ ترتيباته، لتجهيز جيشه وإطلاق حملته.
وبحلول عام 525 قبل الميلاد. غزا الملك “قمبيز الثاني ابن قورش الكبير” مصر، واستطاع بمساندة جيشه القوي الاستيلاء عليها وحكمها لمدة 4 سنوات متتالية، انتصر خلالها على الملك بسماتيك الثالث في معركة الفرما، ثم توجه بعدئذ إلى “منف” واستولى عليها، وهي مدينة مصرية قديمة تقع أطلالها على بعد 20 كم جنوب القاهرة الحديثة، ليرسل فيما بعد الملك بسماتيك إلى المنفى، ثم ينتقل جنوبًا إلى طيبة (الأقصر الآن).
مسار الجيش
وفقًا لما ذكره (هيرودوت) المؤرخ الإغريقي اليوناني الآسيوي، فإن جيش قمبيز قُسم إلى فرقتين، تكونت الفرقة الأكبر من 50 ألف جندي، والذين أرسلوا بهدف حرق المعبد المقدس لزيوس آمون، ومهاجمة كهنة آمون ومواجهتهم، وبعد ذلك اتخذ الجيش الأول مساره نحو الشرق، تحديدًا إلى (كوش)، وهو اسم أطلِق قديمًا على جزء من منطقة النوبة، بينما اتجه الجيش الآخر نحو الغرب، إلى سيوة.
هل اختفى جيش قمبيز حقًا؟
ذاعت بعض الشائعات بعد توجه الجيش إلى سيوة، حيث قيل إن الجيش اختفى تمامًا ولم يُعثر له على أي أثر، وهو ما ذكره المؤرخ الإغريقي (هيرودوت)، مؤكدًا صحة الشائعات، وأن هناك 50 ألف جندي فارسي قد اختفوا وفُقدوا في الصحراء عام 525 قبل الميلاد، مرجحًا هذا الاحتمال من بين عدة تخمينات ونظريات طُرحت، حيث قال إن العاصفة الرملية التي هبت آنذاك، تسببت في موت جيش قمبيز برمته، وذلك بينما كان الجنود يستريحون، وهو ما يفسر اختفاءهم المفاجئ وفقدان أثرهم، بعد أن كان من المفترض أن يتوجهوا لتدمير المعبد.
وقد أجرى هيرودوت دراسة شاملة بهذا الصدد، وتلقى الكثير من المعلومات من سكان سيوة، في محاولة لتخيل مسار الأحداث كما جرت، توصل من خلالها إلى أن جيش الفرس انطلق من الواحة عبر الرمال، ثم وصل إلى منتصف الطريق تقريبًا، هكذا استراح الجنود قليلًا لتناول وجبة الغداء، إذ كان النهار على وشك الانتهاء، وبينما هم جلوس هبت رياح جنوبية مميتة، حملت معها أعمدة دوارة من الرمال الكثيفة، والتي أفقدتهم القدرة على الهرب، بل وغطتهم بالكامل، ليقف الكهنة وجميع المؤرخين عاجزين عن تقفي أثرهم حتى وقتنا هذا.
نظريات “بين التيه والإبادة”
تراوحت النظريات وتعدت الآراء حيال جيش قمبيز المفقود، فالبعض يرى أن الجيش لم يختفِ من الأساس، بل تم إبادته من قبل زعيم المتمردين المصري (بيتوباستيس الثالث) بعد أن نصب له كمينًا محكمًا للقضاء عليه، وأن الحاكم التالي لقمبيز الثاني، هو من قام بتحريف الأحداث لإنقاذ سمعة جيشه من الهزيمة، هكذا استبدل الحقيقة بقصة (العاصفة والجيش المفقود)، والتي تم تناقلها حتى وصلت إلى المؤرخ (هيرودوت).
بينما تبنى بعض المؤرخين نظرية أخرى، وهي نظرية قائمة على فكرة التيه والضياع، إذ لم يعترفوا بالنظريات السابقة، بل رجحوا أن الجيش قد ضل طريقه بالفعل بعد استخدامه خريطة خاطئة، تم دسها عمدًا من قبل بعض المتمردين، بهدف إقصاء الجنود عن مكان المعبد في سيوة، ما تسبب في ضياع وهلاك الجيش في الصحراء، والذي لقي حتفه بعد فترة وجيزة.
الكشف عن آثار جيش قمبيز المفقود الحربية
هكذا وعقب الرحلات الاستكشافية المتعددة التي أجريت، حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ تم العثور على عظام بشرية، رؤوس حراب، خناجر، أسهم، كذلك بعض الجماجم والهياكل المتراكمة، في موقع قريب من واحة سيوة، بالقرب من الحدود الليبية، وذلك من قبل فريق مصري استكشافي، كان يعمل للتنقيب عن النفط المتواجد في المنطقة، ما جعلهم في حالة من الدهشة والإثارة أيضًا، خاصة بعد أن تم استدعاء فريق متكامل من خبراء الآثار، ليكتشفوا حقيقة هذه الآثار الحربية وعلاقتها بجيش قمبيز.
أين ذهب جيش قمبيز؟
الآن وبعد أن تم العثور على هذه الآثار المتعلقة بأسلحة الحرب قديمًا -وهو الشيء المألوف في مصر- هل استطاع الباحثون معرفة السبب الحقيقي وراء اختفاء جيش قمبيز؟ في واقع الأمر لا نستطيع الجزم بأن سبب اختفاء الجيش بات معلومًا، ولكن بعد مرور 4 سنوات على هذا الاكتشاف بدأ فريق من خبراء الآثار والجيولوجيين، بجانب بعض العلماء، بعملية تمشيط للمنطقة التي عثر فيها على بقايا جيش قمبيز، وذلك باستخدام تكنولوجيا الأقمار الصناعية، كما أخضعوا العظام والهياكل أيضًا لاختبار الحمض النووي.
وبناء عليه أكد المسؤولون في المجلس الأعلى للآثار، أنها بالفعل بقايا الجيش المفقود، التي توارت تحت رمال الصحراء، ولكنهم أيضًا لم يتوصلوا إلى السبب الرئيسي وراء اختفاء الجيش، ليظل حل اللغز سر لا يعلمه إلا الله.