ثقافة ومعرفة

قرية سالم.. عندما طالت مطرقة الساحرات 19 فتاة لسبب عجيب

يظن البعض أن الشيطان كان كامنًا في قرية سالم، هذا هو التفسير “الأسهل” -فيما رأوا- لجميع الأحداث الجنونية والظواهر الغريبة التي نشبت فجأة دون سابق إنذار في تلك البقعة الآمنة، فهل أصابت مطرقة الساحرات أهدافها بدقة، أم هوت فوق الرؤوس الخاطئة وكان لفطر الأرغوت الفاسد رأي آخر؟

مطرقة الساحرات.. ما قبل “سالم”

مطرقة الساحرات لمؤلفه هاينريش كرامر -أحد رجال الدين الكاثوليك الألمان- هو أحد أشهر الكتب عبر التاريخ، والذي يتناول فيه محاكمات الساحرات في العصور الوسطى، وقد جرى تأليفه عام 1486 وخرج إلى النور بعدها بعام تقريبا.

أدى هذا الكتاب الذي يصفه البعض بـ “أسود ما كتبته يد إنسان” إلى حالة من التوتر والذعر في أوروبا امتدت أكثر من قرنين من الزمان، وأدت إلى مطاردة النساء والفتيات -غالبا- بتهمة ممارسة السحر، ومن ثم محاكمتهن والحكم عليهن بالإعدام حرقا.

دليل إرشادي

كان الهدف من الكتاب أولا هو إثبات وجود السحر لمن لا يؤمن به، وإبطال حجج المنكرين ومهاجمة المشككين فيه.

وجاء في هذا التوقيت تحديدا نتيجة انتشار ممارسات السحر في أوروبا، وبزوغ نجم محاكم التفتيش التي تلاحق السحرة والمهرطقين، إلا أن المفتشين كانوا كثيرا ما يخلطون بين أعمال السحر وبعض الممارسات الشعبية، ويخبطون خبط عشواء، فكان مطرقة الساحرات -كما يرى القس كرامر- دليلا إرشاديا لتحديد طبيعة أعمال السحر وممارساته، ومعرفة من هو الساحر تحديدا وتمييزه عن غيره، وبيان الأدلة التي تثبت ارتكاب الشخص جريمة السحر، ومن ثم محاكمته والتي تنتهي بالإعدام.

كعكة السحر في قرية سالم

قرية سالم

تقع قرية سالم في ولاية ماساشوسيتس، الولايات المتحدة، والتي ترتفع عن سطح البحر 8 أمتار تقريبًا، وعلى الرغم من اسم القرية الذي يوحي بالهدوء والسكينة، إلا أنها مرت بلحظاتٍ عصيبة، لم يعرف السكان فيها معنى السلام.

بدأت القصة تحديدًا في فبراير 1692 إلى مايو 1693، حيث كانت كعكة السحر هي المتحكم الرئيسي في مصائر الناس، إذ انتشرت بعض القناعات بأن هذه الكعكة لديها قدرة خارقة، تكشف ما إذا كان الشخص المريض يعاني من السحر أم لا، وهي الكعكة المصنوعة من دقيق الجاودار بالإضافة إلى بول الشخص المصاب.

هكذا يتم إجبار الشخص المريض على تناول قطعة من الكعكة، بالإضافة إلى ذلك وخلال فترة انتظار المريض، يتم الاستعانة بكلب عائلة (باريس)، والذي رجح البعض انتماءه إلى سلالة الشيطان، حيث يتم تحديد علة المريض بناء على الأعراض الجلية على الكلب، فإذا ما تشابهت أعراضه مع الشخص المصاب، ثبت وجود السحر، والعكس صحيح، وهي الممارسة الشعبية المعروفة في الثقافة الإنجليزية آنذاك.

سحر أسود

بحلول القرن السابع عشر، اعتقد الكثير من السكان بأن الشيطان كان كامنًا في أرض سالم، والذي تحرر من قيوده أثناء استعمار أمريكا الشمالية، وهو المعتقد الذي كان شائعًا بالفعل خلال القرن الخامس عشر.

بمرور الوقت وتحديدًا منذ عام 1560، ومع ثورة التقنية في عالم الطباعة آنذاك وانتشار “مطرقة الساحرات” بآلاف النسخ في كل أنحاء أوروبا -حيث لم تكد تخلو منه قرية أو محكمة- تزايدت الخرافات والشائعات، وبات سكان القرية على يقين تام بأن أرض سالم مسحورة ومُحاطة بالسحر الأسود، تطاردها الشياطين والأرواح الشريرة من كل صوب.

ظواهر غريبة بلا تفسير

هكذا لم ينفك السكان عن الإيمان بفكرة السحر والاستحواذ، حتى عام 1670 تقريبًا، إذ تصاعدت الخرافات تدريجيًا على مر السنين، خاصة بعد تفشي الأمراض والأوبئة بطريقة ملحوظة، مثل تلف المحاصيل الزراعية أو احتراقها دون سبب ملموس، ونشوب خلافات اجتماعية بين الطوائف، قد تصل إلى القتل، بالإضافة إلى تشنج الأطفال وإصابتهم بالصرع المفاجئ، وكثرة موت الرضع وصغار السن، ما أدى إلى تأكيد قناعتهم بأن أرض سالم تحت وطأة قوى خارقة للطبيعة.

بالإضافة إلى ما سبق، فقد عانت الفتاتان الصغيرتان “إليزابيث باريس” و”أبيجيل ويليامز” من تشنجات شديدة وأعراض غريبة، وبمجرد اللجوء إلى طبيب القرية “ويليام” شخص الحالة التي يعانيان منها على أنها سحر أسود، وبعد فترة وجيزة جدًا، بدأت أعراض مماثلة تظهر على سكان القرية، خاصة الفتيات الصغيرات، وبسرعة البرق انتشرت الأقاويل ووجهت أصابع الاتهام إلى بعض نساء قرية سالم، حيث بدأت رحلة البحث عن كل امرأة تمارس طقوس السحر، حتى يتم عرضها للمحاكمة المدنية، ولكن من هي إليزابيث باريس التي تسببت في محاكمة الساحرات؟

إليزابيث باريس

قرية سالم

إليزابيث باريس، هي ابنة القس “سامويل باريس” وزوجته “إليزابيث الدريدج باريس”، لذا كان والدها يناديها باسم “بيتي” ليميزها عن والدتها.

بحلول غرة عام 1692 كانت إليزابيث تبلغ من العمر 9 سنوات، وقد بدأ الأمر عندما أخبرت والديها أنها رأت الشيطان متجسدًا لها في المنام، وبعد فترة وجيزة بدأت تعاني من أمراض مختلفة وأعراض غريبة لا يوجد لها تفسير، مثل الحمى المفاجأة، كذلك التشنجات والالتواءات المصحوبة بأصوات غريبة وغليظة، وقد تفاقمت الأعراض بعد تناول “كعكة السحر” الخاصة بها، ما تم تفسيره على أنه سحر أسود، الأمر الذي طال قريبتها أيضًا، “أبيجيل ويليامز” البالغة من العمر 12 عاما، ومعظم فتيات القرية بالتسلسل.

محاكمة الساحرات في قرية سالم

وفي إحدى المرات وجهت إليزابيث أصابع الاتهام إلى بعض النساء، والتي أكدت أنهن يمارسن السحر الأسود في القرية، ولأنها ابنة القس فقد توسم الجميع فيها الطهر والنقاء، وبناء عليه أقيمت أكبر محاكمة للساحرات في قرية سالم، والتي على إثرها شُنقت 19 سيدة بشكل فوري، بالإضافة إلى المزارع وعضو الكنسية “جايلز كوري”، المتهم أيضًا بأنه يمارس السحر في القرية، والذي كان قد اتُهم سابقًا بقتل زوجته، التي ظهر شبحها أكثر من مرة لسكان القرية.

من صنع الكعكة؟

تعود فكرة الكعكة إلى إحدى جارات عائلة باريس، المدعوة “ماري سيبلي”، التي أوصت خادم عائلة باريس بصنع الكعكة، وذلك بعد جمع البول من جميع الفتيات المصابات بالأمراض، الأمر الذي ندد به “القس باريس” في الكنيسة فيما بعد، ورفضه رفضًا تامًا، معربًا أن هذه الكعكة ما هي إلا وسيلة لمساعدة الشيطان نفسه.

هكذا لجأ إلى بعض رجال الدين المحليين مطالبًا إياهم بالصلاة من أجل الفتيات، للقضاء على معاناتهن مجهولة المصدر، ولكن رغم جهود رجال الدين المبذولة، وجهود الطبيب المحلي “ويليام غريغز”، ظلت الفتيات على هذه الحالة، إذ لم يتوصل الطبيب إلى سبب مادي لما أصابهم.

فطر الأرغوت في قفص الاتهام

اتفق الباحثون بنسبة كبيرة على أن قرية سالم لا تعاني من السحر أو القوى الخارقة، وأن جميع الاتهامات باطلة ناتجة عن جهل المجتمع آنذاك، كما تم التنويه أيضًا إلى أن السياسة تلعب دورًا كبيرًا فيما حل بالقرية من كوارث وما تبعها من إعدامات للمتهمات بالسحر، إذ من المحتمل أن يكون قريب عائلة باريس “القس ريفريس” هو المسؤول عن كل ما حدث، حيث كان متورطًا في أحداث الجدل القائمة حول السلطة في المستعمرة، متضمنة حروب الملك مع الفرنسيين والهنود أيضًا.

كما أشار بعض الباحثين إلى أن الأمر ناتج عن المشاحنات القديمة بين أفراد القرية، والتي تعلقت بأمور السلطة والميراث، ما دفع البعض منهم للقيام بأفعال مشينة، من بينها دس السم في طعام الفتيات، وإحراق المحاصيل وغيرها من الجرائم الأخرى، لإقناع القرية بفكرة السحر والاستحواذ.

وظهرت مؤخرًا افتراضية مختلفة للطبيبة “ليندا كابورايل” من معهد Rensselaer Polytechnic، ترجح أن الأمراض والأعراض الغريبة التي ظهرت على إليزابيث وفتيات القرية، ما هي إلا حالات تسمم بفطر الأرغوت، المتواجد في دقيق الجاودار المصنوع منه الكعك، والذي كان يُستخدم غالبًا في صنع الفطائر في ذلك الوقت.

ورغم تصديق الكثير من المؤرخين على النظرية الأخيرة، إلا أن هذا لا يمنع كونها مجرد تخمينات وافتراضات لم يثبت مدى صحتها حتى الآن، وتبقى قرية سالم وما حل بها لغزا قائما، لم تنجح حتى مطرقة الساحرات في كشف سره حتى الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى