شخصيات مؤثرةثقافة ومعرفة

نورمان ويلكينسون.. الرسام الذي خدع الألمان وأنقذ البحرية البريطانية

يقولون إن الحرب خدعة، ينتصر فيها الأقوى والأشرس، ولكن من قال إن البقاء دومًا للأقوى؟ في بعض الأحيان يكون البقاء للأذكى والأكثر دهاءً، وهو ما حدث بالفعل من قبل الرسام والملازم نورمان ويلكينسون، الذي قام بأغرب عملية تمويه خلال الحرب العالمية الأولى.

الحرب العالمية الأولى

الحرب العالمية الأولى هي الحرب العظمى التي اشتعل أوارها في القارة الأوروبية في عام 1914 م، وانتهت في عام 1918 م، وشهدت معاركها الطاحنة مقتل ما لا يقل عن 16 مليونا من العسكريين والمدنيين، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية، والأمراض الناجمة عنها التي تسببت في وفاة عشرات الملايين، وتعد الحرب العالمية الأولى واحدة من أشرس الحروب وأعنفها عبر التاريخ.

أطراف الصراع

نشبت الحرب العالمية الأولى بين تحالفين يضمان القوى الاقتصادية العظمى في العالم، وهما:

قوات الحلفاء

ويضم هذا المعسكر المملكة المتحدة والجمهورية الفرنسية والإمبراطورية الروسية وصربيا، وانضمت إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية أخرى إليها لاحقا.

دول المركز

ويضم هذا المعسكر المقابل الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، وانضمت الدولة العثمانية (الرجل المريض)، ومملكة بلغاريا إليها لاحقا.

مواجهة عنيفة

السهل الممتنع.. أغرب عملية تمويه في زمن الحرب

1917، هنا بين أمواج المحيط الأطلسي المتلاطمة، تباشر الغواصات المعروفة باسم “يو بوت” عملها، حيث أمر الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني ببدء حملة مكثفة، الغرض منها استهداف جميع السفن التي تبحر بالمحيط الأطلسي، هكذا لجأت الإمبراطورية الألمانية لاستخدام غواصات يو بوت في مواجهات عنيفة مع سفن الشحن البريطانية، خلال الحرب العالمية الأولى، إذ قامت القوات الألمانية بإخفاء الغواصات حتى استطاعت تتبع سفن الشحن البريطانية.

فاجأت الغواصات الألمانية السفن بهجماتٍ متتالية، والتي لم تؤدِ إلى مقتل الجنود فقط، بل تسببت أيضًا في موت ما يقرب من 12 ألف شخص من المدنيين، في عملية عسكرية ناجحة من قبل الألمان، استطاعوا من خلالها دك وتحطيم السفن المدنية وسفن الشحن، التي بلغ عددها نحو 5700، حيث كانت أهدافًا سهلة جدًا ومكشوفة للعدو، نظرًا لعدم قدرتها على التخفي، إذ كان من الصعب جدًا إخفاء السفن في المحيط مع تغير لون المياه المستمر، تزامنًا مع اختلاف لون السماء، التي ملأتها كميات الدخان الهائلة المتصاعدة من مداخن السفن.

خداع بصري

هكذا أصبحت القوات البحرية البريطانية في موقفٍ حرج، إذ بدت عاجزة تمامًا عن الدفاع عن نفسها أمام غواصات الألمان، مما دفع رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج إلى إصدار قرارات حاسمة وحازمة، تنص على إلزام القيادة البحرية بالتخلي عن منصبها إن لم تستطع الوصول إلى حلول سريعة، لحماية السفن البريطانية.

هكذا بدأ القادة بالتفكير ووضع حلول سريعة، في محاولة لإيجاد اقتراحات تحمي السفن، وتحد من غضب رئيس الوزراء، وقد تضمنت الأفكار التي تم اقتراحها أن تغطى السفن بالمرايا، أو يتم إخفاؤها في هيئة حيتان عملاقة في قلب المحيط، بينما اقترح آخرون أن تُدثّر السفن ببعض أنواع الأقمشة التي تشبه الغيوم، مما يجعل السفن تبدو كانعكاس السحب من بعيد.

حسنًا، جميعها حلول قد تبدو عبقرية وناجحة، ولكنها غير عملية، هنا قرر “نورمان ويلكينسون” أن يتدخل، وهو مصمم الجرافيك والملازم الاحتياطي المتطوع في البحرية الملكية، والذي توصل إلى حل عبقري تمثل في عملية تمويه مبتكرة، والتي كانت أشبه بالسهل الممتنع، إذ جعل من خلالها السفينة بارزة في وجه العدو، ولكنها متخفية في الوقت نفسه، الأمر الذي تم بالفعل عبر القيام بخطة محكمة اعتمدت على الخداع البصري، لتضليل الألمان وإيقاعهم في الفخ الذي يجعلهم عاجزين عن تحديد هدفهم.

نورمان ويلكينسون

نورمان ويلكينسون.. الرسام الذي خدع الألمان وأنقذ البحرية البريطانية

ولد ويلكينسون في كامبريدج بإنجلترا، ثم التحق بمدرسة بيرخامستد، هيرتفوردشاير، ثم في كاتدرائية القديس بولس، الواقعة في الجزء العلوي من ودجيت هيل، في مدينة لندن، وحين اشتد عوده تم إرساله ليخضع للتدريب الفني المبكر بالقرب من بورتسموث وكورنوال، في مدرسة ساوثسي للفنون.

عمل فيما بعد مدرسًا، ولكنه لم يحب مهنته، إذ كان اهتمامه منصبًا على الرسوم التوضيحية، وانشغاله بالبحرية بشكلٍ عام، هكذا عندما أتم الـ21 عامًا سعى أيضًا للدراسة مع رسام المناظر البحرية لويس جرير، حيث درس الرسم الأكاديمي في باريس، حتى أصبح فنانًا معروفًا، كما قام بوضع تصميمات لسكة حديد لندن، والشمال الغربي والسكك الحديدية الجنوبية، والسكك الحديدية الاسكتلندية.

وبمرور الوقت ونظرا لافتتانه بالبحر والرحلات البحرية استطاع نورمان السفر على نطاق واسع، إلى مواقع مختلفة مثل إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا، ومالطا واليونان، بالإضافة إلى جزر الباهاما والولايات المتحدة، كذلك كندا والبرازيل، ولكن مجهوداته لم تتوقف عند هذا الحد، حيث شارك أيضًا في المسابقات الفنية للألعاب الأولمبية الصيفية، في عام 1928 و1948.

التمويه المبهر

السهل الممتنع.. أغرب عملية تمويه في زمن الحرب
نماذج سفن لاختبار مخططات عملية التمويه..

أطلق على فكرة نورمان العبقرية “التمويه المبهر”، والتي استخدم فيها مفهوم “الرسم الخادع” أو “الخداع البصري“، حيث كان هدف ويلكينسون الرئيسي إخفاء اتجاه السفينة وموقعها، إذ قام بإنشاء بعض التصاميم الهندسية الملونة، ليتم طلاء هيكل السفينة، عن طريق القيام برسم مجموعة متنوعة من الأشكال الهندسية والمنحنيات والخطوط، كذلك الدوامات التجريدية غير المنتظمة، وكان ذلك من خلال استخدام ألوان متباينة مثل الأسود والأبيض، الأخضر والبنفسجي، والبرتقالي والأزرق.

كانت وجهة نظر نورمان التي أدلى بها عندما تم سؤاله عن سبب الفكرة، تتلخص في أن إرباك العدو وتضليله، أفضل من الاختباء والفرار منه، حيث رأى أن هذه الأشكال والألوان من شأنها أن تربك القبطان، الذي يراقب سفنهم من خلال المنظار في قوارب العدو، مما يجعل من الصعب عليه تحديد الشكل الفعلي للسفينة وحجمها، أو تحركاتها واتجاهاتها، حيث يمكن التبديل بين مقدمة ومؤخرة السفينة، عن طريق رسم أنماط مختلفة للجزء الأمامي والخلفي، مما يجعل التمييز بين أحدهما والآخر مهمة صعبة بالنسبة للعدو.

بالإضافة إلى رسم الخطوط المائلة، والتي من شأنها تصوير خدعة بصرية توقع العدو في الوهم، إذ تظهر مداخن السفينة تبدو وكأنها تميل في اتجاهٍ آخر.

كما أضاف نورمان قائلًا: من المستحيل رسم السفينة أو تغطيتها بطريقة تخفيها عن أعين غواصات العدو، ولكن على العكس تمامًا يمكننا جعلها على مرأى من العدو، ولكن بطريقة تجعلها مفككة، هنا فقط يمكننا تضليل العدو الذي سيقف عاجزًا عن معرفة المسار الذي تتجه إليه السفينة، حيث يعد التنبؤ بمسار السفن أمر بالغ الأهمية لتحقيق ضربات ناجحة، وهو ما أكده روي بيرنس، الأستاذ في جامعة شمال أيوا، إذ أوضح أن عملية استهداف السفينة يجب أن تتضمن حساب مدى سرعة السفينة ذهابًا وإيابًا، وتحديد مسارها قبل إطلاق وتوجيه الطوربيد “الصاروخ المستخدم لمحاربة السفن”، مما يضمن وصوله إلى السفينة في ذات الوقت.

تجارب أولية

السهل الممتنع.. أغرب عملية تمويه في زمن الحرب

قام ويلكينسون بتطوير المئات من مخططات التمويه، بهدف التأكد من فاعلية فكرته، إذ أنشأت الأكاديمية الملكية للفنون نموذجًا مصغرًا للسفن، ثم رسمتها بأنماط الاختبار، استنادًا إلى ما قدمه نورمان من تصاميم رسم عليها بعض الأشكال والخطوط للتمويه، والتي تم وضعها بعد ذلك على قرص دوار لمشاهدتها من خلال البيريسكوب ليلًا ونهارًا، في محاولة تجريبية لمعرفة الشكل النهائي الذي ستبدو عليه السفن، وبالفعل فشلوا في تحديد مكانها وحجمها بدقة، مما جعل الأمل يدب في قلوبهم وعزز ثقتهم في نجاح الخطة، وبحلول شهر مايو 1917، قام البريطانيون بإجراء أول تجربة، حيث أطلقوا سفينة تقوم بجولة في المحيط الأطلسي، للتأكد من نجاح عملية التمويه في حال عودتها سالمة.

الفصل الأخير

باشرت البحرية الملكية عملها فورًا إثر عودة السفينة، حيث قامت بطلاء وتخطيط ما يقرب من 2300 سفينة، والتي وصل عددها إلى 4000 بحلول نهاية الحرب، استطاعت من خلالها القوات البريطانية التصدي للغواصات الألمانية، بعد أن نجحت في خلق وهم بصري، ساعد في إنقاذ آلاف السفن وتفادي الكثير من الهجمات الألمانية، والتصدي لها ببراعة.

أبهر ذلك التكتيك الحربي الملك البريطاني جورج الخامس وجعله يشيد بعملية التمويه المبهر لنورمان ويلكينسون، بعد أن عجز عن تحديد اتجاه إحدى السفن، عبر بيريسكوب إحدى الغواصات، ليخلد اسمه في التاريخ، كأحد أعظم الرسامين والمصممين خلال فترة الحرب العصيبة، والذي استغل موهبته في خداع الألمان ووضع حد للهجمات البحرية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من السفن الحربية البريطانية.

هل حققت تصميمات ويلكينسون أهدافها؟

نورمان ويلكينسون.. الرسام الذي خدع الألمان وأنقذ البحرية البريطانية

إحصائيا، يصعب القول إن التمويه الذي اعتمده نورمان ويلكينسون قد حقق نجاحا باهرا في البداية، فعلى سبيل المثال في بداية عام 1918 تعرض نحو 72% من السفن المموهة إلى الهجوم ومن ثم الغرق أو الإتلاف، في مقابل 62% من السفن غير المموهة، ما يعني أن عملية التمويه والخداع لم تقلل من أضرار الطوربيدات البحرية بشكل كامل.

بيد أن النسبة تغيرت في الربع الثاني من نفس العام، حيث انتهى الحال بـ60% فقط من السفن المموهة التي تعرضت للهجوم إلى الغرق أو التلف، في مقابل 68% من السفن غير المموهة التي تعرضت للهجمات.

الحرب العالمية الثانية

أثناء الحرب العالمية الثانية تم تطوير هذا التكتيك الحربي واستخدام عمليات التمويه من قبل قوات الجيش الأمريكي، حيث اتبع الجنود الأمريكان أنماط التمويه والخداع البصري ضد الطائرات اليابانية في المحيط الهادئ، إذ قاموا بطلاء نحو 1200 سفينة تجارية، مأخوذة عن التصميمات الخادعة المموهة التي عرفت بتصميمات ويلكينسون، وقاموا بتجربتها على عدد قليل من الطائرات في مواجهة القوات اليابانية.

مما لا شك فيه، فإن عمليات التمويه والخداع تلك أصبحت من الماضي ولم تعد لها فاعلية حقيقية على رادارات الطائرات، وليس لها تأثير يذكر على السفن وما عادت توفر أي حماية لها من الهجمات الجوية بالصواريخ أو في مواجهة الطوربيدات البحرية، وذلك في التطور التكنولوجي ووجود أنظمة المراقبة الإلكترونية الحديثة، إلا أن التمويه بشكل عام يظل جزءا حيويا وأصيلا في عتاد قوات المشاة وآليات الحرب البرية.

المصدر
مصدر 1مصدر 2مصدر 3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى