لم يكن إرنستو جيفارا مجرد صورة رمزية توضع على الجدران، بالعكس، فقد كان أحد رجال عصر النهضة بالقرن العشرين، كان طبيبا وفيلسوفا وعسكريا أخذ على عاتقه تحدي القوى الرأسمالية التي طغت على العالم، عن طريق الكلمات تارة، والسلاح تارة أخرى.
ولد جيفارا في روساريو بالأرجنتين عام 1928، لأسرة متوسطة الحال، ساهمت في تشكيل نظرته للحياة بفضل مكتبتهم المنزلية التي احتوت على كتب متطرفة ترفض الاستبداد.
تشكل فكر جيفارا الماركسي بعمق خلال سنوات حياته خلال مواجهاته مع الفقر المدقع الذي عاشته بلدان أمريكا الجنوبية أثناء تلك الفترة الزمنية، بالتالي تحولت أفكاره من مجرد أفكارٍ إلى أعمال ثورية بكوبا والدول المجاورة لها.
ولأننا لا نعرف عمّن يلقب بـ”تشي جيفارا” سوى القليل، يبدو من المنطقي أن نبحث عن تفاصيل حياته التي لم تتناقل كما أفكاره بين الأجيال.
أصل ثوري بامتياز
يعتقد أن بعض الأشياء المعنوية توّرث، مثل الطباع والخصال، ويمكننا أن نعتقد بأن أفكار جيفارا الثورية لم تكن فقط نابعة من بحثه والظروف المحيطة به، بل ربما قد ورث الطبع الثوري من أجداده كذلك.
كان الجد الأكبر لإرنستو جيفارا (باتريك لينش) أحد هؤلاء الذين هاجروا من أيرلندا إلى ما يعرف بالأرجنتين حاليا مطلع القرن الثامن عشر، ويقول والد إرنستو عن ذلك.. “أعتقد أن جينات المتمردين الأيرلنديين قد وجدت طريقا إلى عروق نجلي”.
لكن هذا ليس كل شيء، فحسب رواية شقيق جيفارا -خوان- كان الجانب الآخر من شجرة العائلة منحدرًا من أصول باسكية، عرفت كذلك بالتمرد على الحكم الإسباني المستبد.
تشي العادي
أول التساؤلات التي تطفو على السطح حين يتعلّق الأمر بجيفارا هي السر الذي يكمُن خلف لقبه (تشي)، الذي طالما نودي به بين مريديه، والحقيقة هي أن ذلك اللقب القصير، الحاد والذي علق بذاكرة الجميع ما هو إلا كلمة أرجنتينية تكافئ كلمة صديق أو رفيق، إلا أن تكرار اللقب على الأذان منحه نوعا من أنواع التميز.
كان جيفارا شابا عاديا، يحب الرياضة والشعر، كما درس الطب، قد تجد في هذه الحقائق مفاجأة نظرًا للصورة النمطية التي تمتلكها عن ذلك الرجل الذي لطالما تم تصويره وكأنه آلة حرب متحركة، إلا أن دائمًا هنالك نصفا آخر للحقيقة يجب البحث عنه.
امتلك إرنستو عضوية بنادي سان إيسيديرو للرجبي بالأرجنتين، حيث لعب هناك هذه الرياضة نحو منتصف فترة شبابه، لكن المشكلة كانت معاناته من الربو، الذي حرمه من الاستمرار كلاعب رجبي، بالتالي نصحه والده بأن يتوقف عن ممارسة هذه اللعبة تماما خوفا على صحته، الأمر الذي قابله تشي بالرفض التام، حيث قال.. “سأستمر بلعب الرجبي حتى لو كلفني الأمر حياتي”.
عند وفاته، لوحظ حمله لكتاب شعر أخضر، به نصوص لشعراء عظام قام بنسخها يدويا بنفسه، ربما يبدو ذلك الأمر غريبا، لكن السبب في تعلُّق جيفارا بالشعر يرجع كذلك لإصابته بالربو، حيث تم إجباره على الدراسة من المنزل، آنذاك تعرّف على الشعر الذي أحبه، بل وظل رفيقه إلى أن فارق الحياة.
كيف تحول إرنستو لجيفارا؟
أثناء فترة دراسة إرنستو للطب بجامعة بيونيس آيريس، ذهب في رحلة عبر أمريكا الجنوبية مستقلا دراجة نارية، وخلال هذه الرحلة التي شرع بها عام 1950، رأى الفقر الشديد الذي يعاني منه العمال بأمريكا الجنوبية، حيث كانوا ضحايا حقيقيين للاستغلال الرأسمالي، لذلك، أخذ على عاتقه محاربة الأنظمة الرأسمالية بكل ما أوتي من قوة.
بحلول العام 1953، كان تشي جيفارا قد استقر بغواتيمالا، بعدما رأى في حاكمها (جاكوبو جوزمان) نموذجا جيدا، حين أعاد توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين، وهي الخطوة التي أغضبت النخبة وبعض الشركات الخاصة المملوكة للولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر الرمز الحقيقي للإمبريالية.
نتيجة لذلك، قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتكثيف جهودها للإطاحة بجاكوبو، إرضاءً للنخبة، فتم طرده من الرئاسة على الرغم من أنه كان منتخبا بشكل ديمقراطي، وتم تعيين مجلس عسكري بقيادة اليميني كاستيلو أرماس.
في هذه اللحظة، تحول جيفارا تماما، وأصبح أكثر تطرفا، حيث شارك بشكل مباشر في أنشطة ثورية للمرة الأولى، حيث قاتل مع مجموعة صغيرة من الرجال بغية استعادة السيطرة على الحكم بجواتيمالا سيتي، لكن دون جدوى.
اشتهر تشي كذلك بدوره المحوري في الثورة الكوبية، لكنه عمل أيضًا على تصدير نموذجهم إلى بلدان أخرى، كما في حالتي بوليفيا والكونغو، واشتمل ذلك على الانخراط مباشرة في ثورة مسلحة في منتصف الستينيات.
كما سافر إلى الولايات المتحدة، وخاطب أعضاء الأمم المتحدة في عام 1964 في خطاب دام ساعة انتقد فيه الأمم المتحدة نفسها وكذلك معاملة الولايات المتحدة للأمريكيين السود.
النهاية الحزينة
تم القبض على تشي من قبل القوات البوليفية بمساعدة وكالة المخابرات المركزية في عام 1967 أثناء محاولته إثارة ثورة في بوليفيا، وتم إعدامه بأبشع صورة ممكنة في اليوم التالي بأوامر من الرئيس.
فقبل تنفيذ حكم الإعدام، تم قطع يدي الرجل الثوري حتى يتعرف الناس على هويته، بعد ذلك تم إلقاء جثته بمقبرة جماعية مع بعض المقاتلين.
بعد ذلك بنحو 30 عاما، تم الكشف عن القصة أعلاه، فقامت السلطات بتكثيف عمليات البحث عن جثمان جيفارا الذي تم التوصل إليه في 1997 بعدما قورنت الملامح واليدان المفقودتان والغليون بنظيرتها الخاصة بجيفارا، قبل أن يتم نقله إلى سانتا كلارا بكوبا حيث أعيد دفنه، بالقرب من تمثال عملاق له.