وصلت التوابل إلى أوروبا عبر الطرق البرية والبحرية بالقرن الـ15، حيث نالت ثناء الغرب، واستخدمت في الطعام وأحيانا كأدوية، لكن كان دائمًا ما يعوق استقدامها لأوروبا عدم وجود طريق مباشر ما بين محل وجودها بآسيا وأوروبا، حيث كان يتم نقلها إلى أوروبا عن طريق الشرق الأوسط، ما يعني بالتبعية زيادة في سعرها نتيجة لوجود وسطاء، لهذا، كان أحد المحفزّات الرئيسية بعصر الاستكشاف الأوروبي هو البحث عن الوصول المباشر إلى تجارة التوابل المربحة للغاية.
صورة عامة
بالعصور الوسطى، كان مصطلح التوابل مصطلحا عاما، يشمل جميع المنتجات الطبيعية بدايةً من السكر ووصولا إلى الفلفل والأعشاب، وكانت التوابل تحظى بإعجاب واضح من قبل الأوروبيين، بسبب النكهة التي كانت تضيفها للأطباق، على الرغم من أنه يعتقد أن الأصل في استخدام التوابل مع الطعام كان لإخفاء طعم اللحوم الفاسدة.
بينما امتلك الأوروبيون عاملا آخرا جعلهم ينجذبون للتوابل، حيث كانت تعد مكونات نادرة، بالتالي تشير إلى ثراء من تتزين طاولة طعامه بها، فأصبحت إضافة عصرية لأي جلسة طعام، ورمزا حقيقيا للأثرياء الذين لطالما امتلكوا كل ما هو نادر، بل إنها أحيانا أصبحت قيمة في حد ذاتها مثل الحلويات فباتت تؤكل بمفردها دون إضافتها على أي نوعٍ من الطعام.
كانت أكياس التوابل مطلوبة للمآدب الملكية وحفلات الزفاف، فعلى سبيل المثال، كان منزل دوق باكنغهام في إنجلترا يستخدم رطلين (900 جرام) من التوابل يوميًا، معظمها من الفلفل والزنجبيل، لكن في نفس الوقت؛ حتى الطبقات الفقيرة كانت تستخدم الفلفل كلما أمكنهم الحصول عليه، بل وبكميات كبيرة، على الرغم من تكلفته.
التوابل هي الحياة
بجانب تذوقها؛ اُعتقد بأن للتوابل قيمة طبية، حيث كانت تستخدم كمطهٍّر للجسد، لكن القيمة الأهم بالنسبة لمن عاشوا ذلك العصر كانت قدرة التوابل على حفظ توازن الجسم، والتي كانت الفكرة الشائعة عن الجسم المثالي، فعلى سبيل المثال، كانت الأسماك طعاما باردًا ورطبًا، وبإضافة التوابل له، أصبحت هاتان السمتان أكثر توازنا.
كان يمكن أيضًا تناول التوابل كأدوية في حد ذاتها، وبالتالي يتم سحقها وتحويلها إلى حبوب، كريمات وشراب، وعدّ الفلفل الأسود علاجًا جيدًا للسعال والربو، وادعى الكيميائيون أنه يمكن أن يشفي جروح الجلد السطحية بل ويعمل بمثابة ترياق لبعض السموم، وكانت القرفة تستخدم لعلاج الحمى، وجوزة الطيب للحماية من انتفاخ البطن.
استخدمت كذلك التوابل للتخلُّص من الروائح الكريهة بشكل عام، عن طريق حرقها مثل البخور، نثرها على الأرضيات، أو حتى وضعها مباشرة على الأجساد، لأن المختصين ارتأوا أن الرائحة الكريهة من الممكن أن تسبب الأمراض الجلدية، ويعد اللبان، الصندل، خشب الصندل والمستكة من العطور الأكثر رواجًا بالعصور الوسطى، لذلك نرى خلال موجات طاعون الموت الأسود العديدة التي اجتاحت أوروبا في هذه الفترة، أحرق الناس العنبر لدرء المرض المميت.
رغبة حقيقية
حقيقة؛ لم تكُن أوروبا بأسرها تحمل إجلالا كبيرًا للتوابل، على الرغم من فوائدها التي عددناها سلفا، فقد كانت هنالك أصوات معارضةً للأموال الطائلة التي يتم إهدارها من أجل استيرادها، وكان بعض رجال الكنيسة أعلى قائمة الأصوات المعارضة، حيث رأوا أنه من الأفضل أن يتم صرف الأموال بأشياء تعود بنفع على الشعوب بشكل أكبر.
بالطبع لم تعر النخبة اهتماما لهذه الأطروحات، ربما لأنهم كان يشغلون بالهم بمشكلة أكبر بالنسبة لهم، وهي إيجاد طريق مباشر لتوابل الشرق، دون الحاجة للوسطاء -التجار العرب- لكن الأزمة كانت عدم إدراكهم للمكان الذي يذهب إليه العرب من الأساس للحصول على التوابل ومن ثم بيعها لهم.
بحلول القرن الـ13، بدأ المسافرون مثل ماركو بولو، في توسيع الرقعة الجغرافية المعروفة للأوروبيين، حيث ذهبوا شرقا ليجدوا الهند ممتلئة بالفلفل الأسود، سيريلانكا غارقة في القرفة، وكانت تيمور مصدر خشب الصندل، بينما كانت الصين واليابان تحصلان على توابل مثل القرنفل وجوزة الطيب والصولجان من الهند وجنوب شرق آسيا وجزر مالوكو، لذلك أطلق عليها لقب جزر التوابل.
بسقوط القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية عام 1453 على يد العثمانيين، فقدت أوروبا رسميا الطريق البري الرئيسي لها على خط تجارة التوابل، لذلك أصبح حتميا أن يبحث التجار الأوربيون عن طريق بديل، بل إن الأفضل هو محاولة السيطرة على إنتاج التوابل من المصدر إن أمكن.
لذلك؛ أصبحت هنالك دوافع سياسية، اقتصادية، ودينية لاكتشاف طريق بحري من أسيا إلى أوروبا بعدما أغلقت الطرق البرية، ولأن الجانب الاقتصادي أيضا هام بالنسبة للإقطاعيين، الذين حلموا بتحقيق عوائد ضخمة عبر تجارة التوابل المربحة، أبحر العديد من المستكشفين إلى المجهول.
رحلات
كان البرتغالي كريستوفر كلومبوس يعتقد حين أبحر غربا عبر المحيط الأطلسي أواخر القرن الـ15 أنه في طريقه لكي يكتشف آسيا -منبع التوابل- لكنه نجح صدفةً في اكتشاف كتلة أرضيةً جديدة وهي الأمريكتان، وفي عام 1488 أبحر بارتولوميو دياس أسفل ساحل غرب إفريقيا وقام بأول رحلة حول رأس الرجاء الصالح، الطرف الجنوبي من القارة الإفريقية (جنوب إفريقيا حاليًا) وتبعه فاسكو دا جاما، الذي قام أيضًا في 1497-1994 برحلة مشابهة ولكنه أبحر بعد ذلك على ساحل شرق إفريقيا وعبر المحيط الهندي للوصول إلى كاليكوت (كوزيكود حاليًا) على ساحل مالابار في جنوب الهند.
أخيرًا، وجد الأوروبيون طريقًا بحريًا مباشرًا إلى ثروات الشرق، فعبر ساحل مالابار في الهند، يمكن للسفن الأوروبية أن تبحر شرقًا إلى جزر التوابل وجنوب شرق آسيا، لهذا تم فتح طريق من قبل فرانسيسكو سيراو، الذي أبحر إلى جزر التوابل في عام 1512، وفرديناند ماجلان، عندما قام بأول طواف حول العالم في 1519.
حيل سياسية
كان الوصول جغرافيًا إلى تجارة التوابل أمرًا، وكان الدخول في التجارة نفسها أمرًا مختلفًا تمامًا، حيث كانت المشكلة الأولى والأكبر للبرتغاليين في طموحاتهم التجارية في الشرق أنهم لم يمتلكوا أي سلع يرغب فيها التجار الهنود أو المسلمون، حيث كان العديد من الحكام العرب والهنود بالفعل أثرياء للغاية، وكانوا يكرهون إجراء أي تغييرات على شبكة التجارة الإقليمية التي كانت تعمل بشكل جيد جدًا، والأهم أنها تعمل بشكل سلمي.
بالتالي لم يمتلك البرتغاليون حلا سوى استخدام القوة، لأنها نقطة التفوّق الوحيدة بالنسبة لهم، كان الحل بسيطًا إذن، وهو الاستيلاء على شبكة التجارة بالقوة وإقامة احتكار لتجارة التوابل ليس فقط بين آسيا مع أوروبا ولكن داخل آسيا أيضًا.
ومن هذا المنطلق، تم إرسال المزيد والمزيد من السفن الحربية حول رأس الرجاء الصالح، وبنيت الحصون في كل مكان، بدايةً من الهند وصولا في النهاية إلى اليابان، وبنفس الأثناء أعلن الملك البرتغالي مانويل الأول احتكارًا ملكيًا لتجارة التوابل، ولم يكترث لاتساع المنطقة الجغرافية التي كان على البرتغاليين القيام بدوريات فيها، وقام بتعيين نائب ملك للهند في عام 1505، وذلك على الرغم من أن البرتغاليين لم يكن لديهم أهداف إقليمية حقيقية تتجاوز السيطرة على المراكز التجارية الساحلية.
وللتأكد من السيطرة تماما على التجارة، وخاصةً تجارة التوابل، كان يسمح للسفن التجارية فقط الإبحار وزيارة الموانئ إذا امتلكت ترخيصا ملكيا، وإذا لم تكن تمتلكه، يتم مصادرة البضائع المحملة على متنها، بغض النظر عما إذا كانت هذه البضائع عبارة عن توابل أو أي شيء آخر، بل إن الأمر كان يصل أحيانا لسجن أطقم السفن التجارية.
عقب سيطرة البرتغاليين شبه الكاملة على تجارة التوابل، ظهر أول خطر حقيقي يمكنه تهديد سيادتهم على الأراضي الشاسعة التي من المفترض عليهم حمايتها، فقد كان الهولنديون يطمعون في السيطرة على جزر التوابل، وحدث ذلك بمنتصف القرن الـ17، لتتحول الدفة بأكملها صوبهم، بل قاموا باستيراد 3 أضعاف الكميات التي نقلها البرتغاليون إلى أوروبا بعدما أحكموا قبضتهم ووضعوا شروطهم الخاصة لتجارة التوابل بأوروبا وآسيا.
في هذه الأثناء نشبت عدة حروب من أجل فرض السيطرة على طرق التجارة، والتي انتهت بتقهقر قوى البرتغال أمام عديد الهجمات من الهنود، الفرس، وحتى الإنجليز، لتنتهي حقبة من السيطرة على هذه التجارة التي سعت إلى نيل مفاتيحها أوروبا بأسرها، بقي أن نتذكر أن ما بدأ رغبة في استيراد توابل من أجل تزيين الطعام والعلاج، انتهى بمحاولات لاحتلال بلدان بأسرها، فقط لأن الاقتصاد والسياسة لا يمكن أن يتم فصلهما عن بعضهما البعض، وربما لن يحدث ذلك إلى الأبد.