تحول علم النفس بأواخر القرن الـ19 إلى علم منفصل عن الفلسفة، لذلك حصل مفهوم تكوين الشخصية على نصيب الأسد من الأطروحات الفكرية بهذه الفترة، بسبب تركيز علماء النفس على العقل، ومعاملته بمعزل عن الجسد، عكس ما كان يحدث سابقًا.
تعريف الشخصية
اشتقت كلمة شخصية نفسها من الكلمة اللاتينية “Persona”، والتي تشير إلى القناع المسرحي الذي يرتديه الممثل عند وقوفه على خشبة المسرح، من أجل لعب دور مختلف عن دوره في الواقع، والذي يتمكن خلاله من تقديم صورة ممتعة للجمهور الذي يشاهده، عبر تنقله بين أنماط الشخصيات المختلفة، أو ما يمكن أن يوصف مجازًا بالقدرة على تقمص الشخصيات.
كتعريف مبسط، تعد الشخصية هي الأنماط المميزة للأفكار والمشاعر والسلوكيات التي تجعل الشخص فريدًا، مثل بصمة اليد، التي لا يمكن أن يتشاركها البشر فيما بينهم، ويُعتقد أيضًا أن بعض أنماط الشخصية تنشأ مع الإنسان منذ لحظة ولادته، لكن ذلك لا يمنع بالضرورة لعب العديد من العوامل دورًا مؤثرًا في تكوين شخصية الإنسان، بل وأحياناً تطويرها إلى الأفضل، أو دفعها إلى الأسفل، ويعتمد ذلك على شكل تفاعل الفرد مع كل ما يحيط به من متغيرات.
ما هي مراحل تكوين الشخصية
يعتبر النمساوي “سيجموند فرويد” المؤسس الحقيقي لمدرسة التحليل النفسي، وقامت نظريات فرويد التحليلية على عدة مفاهيم أبرزها تصوره الخاص لمفهوم الشخصية، التي يمكن أن تنقسم بالنسبة له إلى 3 محاور رئيسية، وهي الهوية، الأنا، والأنا العليا.
الهوية
امتلك فرويد تصورًا خاصًا عن الشخصية، حيث كان يشبهها بالجبل الجليدي؛ الجزء الظاهر من ذلك الجبل فوق سطح الماء ما هو إلا جزء صغير جدًا من الجبل بأكمله، وذلك ما أسقطه على الوعي الإدراكي، أما بالنسبة لقاعدة الجبل، فهي الجزء الأكبر بكل تأكيد، والتي ترمز إلى اللاوعي، حيث توجد كل الأفكار والرغبات الإنسانية، والتي يمكن تعريفها بالهوية.
تعتبر الهوية الجزء الوحيد من الشخصية الذي يولد مع الإنسان، وتعد كذلك المكون البدائي والقوة الدافعة لها، حيث إن الهوية لا تدفع الإنسان فقط لتلبية احتياجاته الأساسية وحسب، بل توفر الطاقة اللازمة لقيادة الشخصية.
الأنا
في كتابه “محاضرات تمهيدية حول التحليل النفسي“، حاول فرويد شرح مفهوم الأنا، وعلاقته بالهوية الإنسانية، وصور هذه العلاقة على شكل جواد وفارس يمتطيه، حيث إن الجواد هو القوة الهائلة التي تمثل الهوية، وتدفع الإنسان إلى الاتجاه الذي يريد، بينما الفارس هو الأنا التي تعمل على تصويب مسار الهوية إلى نحو الطريق الأمثل، مع ذلك أشار فرويد إلى أن في حالات كثيرة قد لا يصعب على الأنا توجيه الهوية إلى الطريق الصحيح، مثل الجواد الجامح، الذي قد يشرد عن مساره إذا ما فاقت قوته من يمتطيه.
الأنا العليا
يرى فرويد أن الأنا العليا هي آخر مراحل تطور الشخصية، حيث تتكون من المُثل التي اكتسبها الإنسان من أبويه والمحيطين به منذ ولادته وحتى سن السادسة تقريبًا، والتي تعمل على قمع دوافع الهوية الغريزية وتحاول جعل الأنا تتصرف بشكل أخلاقي على الدوام.
مراحل تكوين الشخصية عند إريك إريكسون
بعيدًا عن أطروحة فرويد، طرح عالم النفس الأمريكي، إيريك إريكسون وجهة نظره الخاصة بمراحل تكوين الشخصية، حيث قسّم عملية تطور أي شخص إلى 8 مراحل، تبدأ مع لحظة ولادته وتنتهي حين يبلغ سن الـ55، وتستمر على هذه الصورة حتى وفاته.
الثقة وانعدام الثقة
يرى إريكسون أنه أثناء فترة الطفولة التي تمتد منذ لحظة الولادة إلى لحظة وصول الطفل إلى سن 18 شهرًا، هي الفترة التي يتعلم خلالها الإنسان فضيلة الأمل، حيث ينحصر تفكيره حول مفهوم الثقة في من حوله من البشر، وهم في هذه الحالة غالبًا الأبوان المسؤولان عن رعايته.
الاستقلالية أو الانهيار
تعد الفترة ما بين سن الـ18 شهرًا وصولًا إلى 3 سنوات، الفترة الأهم في تكوين شخصية الإنسان وفقًا لإريكسون، حيث يفترض أن الطفل يتعلم أثناء هذه الفترة العديد من الأشياء التي تندرج تحت بند الاستقلالية مثل المشي، الكلام، الأكل، وحتى دخول المرحاض، بالتالي فالفشل في تعليمه أيًا من هذه المهارات البدائية، يعني دون شك تدني احترام الطفل لذاته بشكل منفصل عن أبويه، والعكس بالعكس.
التقليد والمبادرة
من سن 3 إلى 5 سنوات، يقع الإنسان فريسة شعورين متناقضين تمامًا؛ في هذا السن يبدأ الطفل تارة في تقليد من هم أكبر منه سنًا ببعض الأمور التي يفعلونها، وفي أخرى يذهب ويأخذ المبادرة لتجربة أشياء جديدة باندفاع، ويعتقد أن المشكلة الأكبر في التعاطي مع تصرفات الأطفال بذلك السن هي معاقبتهم على نتاج أحد التصرفين، سواء كان التقليد أو المبادرة، لأن هذا قد يدفع الطفل للشعور بالذنب تجاه أي تصرف يقوم به فيما بعد.
الصناعة والدونية
تبدأ المرحلة الرابعة النفسية والاجتماعية خلال سنوات الدراسة المبكرة من سن 5 إلى 11 عامًا تقريبًا؛ من خلال التفاعلات الاجتماعية، يبدأ الأطفال في تطوير شعور بالفخر بإنجازاتهم وقدراتهم، ويعد الشعور بالكفاءة هو أهم مكتسبات هذه المرحلة بالنسبة للفرد، حيث يبدأ الأطفال في ذلك الوقت مقارنة قيمتهم الخاصة مع من حولهم وقد يشعرون بالدونية إذا لم يرقوا إلى المستوى المطلوب.
الهوية وارتباك الأدوار
بدخل الإنسان سن ما يُعرف مجازًا بالمراهقة في الفترة ما بين 12 إلى 18 سنة، وهي الفترة التي يبدأ خلالها المراهقون سؤال أنفسهم حول حقيقة هويتهم، وماذا يمكن أن يقدموا للعالم من حولهم بعد سنوات، لذلك هذه المرحلة هي استكمال لعملية تعزيز ثقة الفرد بنفسه، لكن أحيانًا يصطدم المراهقون بشعور حقيقي بالارتباك، إذا ما قرر الأبوان دفع المراهقين نحو اتجاه محدد، يحولهم إلى نسخ أخرى لا تشبههم.
الحب أم العزلة؟
يحتاج الشباب إلى تكوين علاقات حميمة ومحبة مع الآخرين خلال الفترة ما بين سن الـ18 والـ35، لأن هدف الإنسان الحقيقي بهذه المرحلة غالبًا ما يكون محاولة بدء مجتمع مصغر خاص به؛ وهو أسرته الخاصة التي كونها بنفسه، ويؤدي النجاح في الوصول للشعور بالحب إلى علاقات قوية مع المحيطين، بينما يؤدي الفشل إلى الشعور بالوحدة والعزلة.
أزمة منتصف العمر
يحتاج البالغون إلى إنشاء أو رعاية أشياء تدوم لفترة أطول، ويحدث ذلك عادةً عن طريق إنجاب الأطفال أو إحداث تغيير إيجابي يفيد الآخرين، ويؤدي النجاح إلى الشعور بالفائدة والإنجاز، بينما يؤدي الفشل إلى مشاركة ضحلة في العالم، وهذا يتم تعريفه بأزمة منتصف العمر، وهي المرحلة التي توصف بمرحلة الركود، حيث يبدأ الإنسان بتقدير ما قام به طوال حياته، ومحاولة قياسه وفقًا لمعاييرهم الخاصة حتى يستنتج مدى نجاحه أو فشله خلال هذه الرحلة الطويلة.
مرحلة الحكمة
خلال هذه الفترة الأخيرة من عمر أي إنسان، يرى إريسكون أنها غالبًا ما تتسم بالحكمة، حيث يقف الإنسان مسترجعًا شريط حياته كاملًا، حيث يتأمل الإنسان حياته ويقيمها للمرة الأخيرة، فهنالك من يشعر أن حياته كانت مرضية ويستعد لمواجهة نهايتها بشعور من السلام، وهناك من يشعر بالندم والخوف من أن حياته ستنتهي دون تحقيق الأهداف التي وضعها لحياته.
عوامل تكوين الشخصية في علم النفس
بالتأكيد تم تطوير العمل على نظرية إريكسون الخاصة بمراحل تكوين الشخصية، خاصة وأن النظرية نفسها لم تعط آليات دقيقة توضح توابع فشل الإنسان في تخطي أي من تلك المراحل الثماني بنجاح، وتأثيره على كامل حياته القادمة، لكن إجمالا، يعتقد أن محاولة عالم النفس الأمريكي، والتي قدمها بعد تطويره لأطروحة فرويد، تعطي تصورًا جيدًا عن مراحل تطور شخصية الإنسان من وجهة نظر علم النفس، لكن يظل السؤال الذي لم تجب عليه هذه النظرية باستفاضة هو هل هنالك عوامل أخرى تؤثر سلبًا أو إيجابا على تكوين الشخصية بغض النظر عن سن الإنسان؟
قسم المتخصصون عوامل تكوين الشخصية في علم النفس التي يمكن أن تؤثر بدورها على الإنسان إلى 3 أقسام رئيسية: (عوامل وراثية- عوامل متعلقة بالأسرة والتعليم- عوامل خاصة بالبيئة المحيطة بالإنسان).
العوامل الوراثية
عند الحديث عن علاقة العوامل الجسمانية بتكوين الشخصية علينا أن ننتبه إلى أن هذه العوامل كثيرة ومتشعبة، لكنها جميعًا عوامل لا يستطيع الإنسان أن يتحكم في مدى تأثيرها عليه وعلى تصرفاته، لأنها تولد معه.
فمثلًا، يؤثر المخ والجهاز العصبي بدرجات متفاوتة على درجات استثارة الأفراد تجاه المواقف المختلفة، وتعاملهم معها، ومن جهة أخرى يلعب الذكاء دورًا محوريًا في تكوين الشخصية، حيث يعتقد أن الأشخاص أصحاب معدلات الذكاء المرتفعة يمتلكون طباعا حادة واستجابة سريعة، على عكس من يمتلكون معدلات ذكاء منخفضة، الذين يتميزون عادة بالتبلد وعدم الاستجابة لأي مثيرات بشكل سريع.
البيئة
تعد البيئة مصطلحًا عامًا، يشمل كل الأماكن التي يتواجد بها الإنسان لفترات تسمح لها بالتأثير على شخصيته، مثل المدرسة والمنزل ومقر العمل، كذلك يمكن وضع بعض الإضافات لما يمكن تعريفه بالبيئة المؤثرة على تكوين شخصية الإنسان، مثل اللغة والعرق والدين.
بذكر الأسرة، تعد الطفولة المرحلة الأكثر تأثيرًا في حياة الإنسان، حيث يبدأ في استكشاف العالم من حوله عن طريق الوالدين، لذلك فإن الأسس التي يتم غرسها بشخصية الإنسان بهذه الفترة تظل معه لسنوات، وربما يصعب تعديلها أو تغييرها، نظرًا لأن الفرد يتخذ من أحد أبويه أو كليهما مثلًا أعلى بهذه الفترة، ويبدأ في تقليد ومحاكاة عاداتهم وتقاليدهم، لتصبح راسخة باللاوعي الخاص به، أو بمعنى أوضح شخصيته التي استقاها عبر والديه.
العوامل الاقتصادية
تؤثر عدة عوامل أخرى في تكوين شخصية الفرد أثناء مرحلة الطفولة، بغض النظر عن القيم الأخلاقية التي حاول الأبوان غرسها بداخله، مثل العوامل الاقتصادية التي تتحكم في الحيز الجغرافي والاجتماعي الذي ينشأ به أي إنسان؛ بداية من التعليم ووصولًا إلى أدوات الترفيه المتاحة، والذي يجعل الإنسان يتعامل وفقًا لمنظوره الخاص، والذي سيتطلب تعاملًا مختلفًا دون شك إذا ما خرج الطفل منه وواجه واقعًا اجتماعيًا مختلفًا سواءً كان أعلى اقتصاديًا أو أدنى.
الموقف
يعد الموقف أهم عوامل تكوين الشخصية، حيث إنه مزيج ما بين العامل الوراثي والعامل البيئي، فهو باختصار، التجارب التي يتعرض لها الإنسان ويختبرها، والتي تترك بصمات على شخصيته وتلعب دورًا هامًا في تطورها، سواء كانت مواقف لها وقع إيجابي أو سلبي عليه.
باختلاف المواقف والتجارب التي يمر بها كل شخص، تختلف شخصيته، فلكل عمل على سبيل المثال شروط لا بد وأن تتوفر في العاملين به، والتي تختلف جذريًا بين مهنة وأخرى، ومساحة جغرافية وغيرها، وحتى بين كون الشخص نفسه رجلًا أو مرأة، لذلك فلكل تجربة وقعها على تكوين شخصية الإنسان، وفقًا لمرجعيته الخاصة، التي يتميز بها وحده.
من هنا نجد أن كل ما سبق يؤثر بدرجات متفاوتة على تكوين الشخصية لدى الإنسان، بدايةً من تكوينها، وصولًا إلى تقييمها؛ فالبشر في العموم هم نتاج بيئتهم، فإذا ما أعدنا النظر إلى الثلاثة عوامل أعلاه، سنجد أن أي إنسان ولد بسمات معينة، وساعدته أوضاعه المعيشية وأي مواقف مؤثرة مر بها في تكوين شخصيته على مدار حياته.