تحتل نظريات الإدراك في علم النفس أهمية كبرى لدى المهتمين بعلم النفس عمومًا والمتخصصين في علم النفس المعرفي بصفة خاصة، نظرًا لأن الإدراك يعد أحد أهم العمليات المعرفية التي تمكننا من فهم كل ما يحيط بنا، والتكيف مع العالم الخارجي، لذا دعونا نتعرف على تلك النظريات وأهم المعلومات عنها.
ما هو الإدراك؟
سعى الكثير من علماء النفس إلى تعريف الإدراك، وهو ببساطة العملية العقلية المعرفية التي تعطي معنى ودلالة للمثير (أي الشيء الذي يجذب انتباهي)، ويعد الإدراك عملية انتقاء وتنظيم.
نظريات الإدراك في علم النفس
هل الإدراك مصدره العقل أم الحواس أم الشعور أم الموضوع المدرك؟ دأب الكثير من المهتمين بعلم النفس على وضع العديد من النظريات التي تفسر لنا عملية الإدراك ومنها:
النظرية العقلية (الإدراك المجرد)
يرى أصحاب المنهج العقلي مثل: (رينيه ديكارت)، و(ألان) بأن العقل هو صاحب الدور الرئيس في الإدراك؛ أي أن الإدراك نشاط عقلي، يتم من خلاله تحويل الأحاسيس والانطباعات الحسية التي تصل للعقل إلى إشارات تفسر لنا ما يدور بالعالم الخارجي.
الأدلة والمبررات:
اعتمد أنصار هذه النظرية على مجموعة من الأدلة والحجج منها:
- هناك فرق بين الإحساس والإدراك، فالإحساس مرتبط بحواس الجسم، واعتبروا ما نحس به عبارة عن ردود أفعال فردية قائمة في الذات، أما الإدراك فهو مرتبط بالعقل (الممتد خارج الذات).
- يعد الإدراك من العمليات العقلية العليا مثل: التذكر، التفسير، التأويل، التحليل والاستنتاج، وهو نشاط وبناء عقلي معقد.
- إدراكي للمكعب عند رؤيتي له؛ أحكم عليه بأنه مكعب بالرغم من أنني لا أرى سوى 3 أسطح في حين أن للمكعب 6 أسطح، يقول “ألان”: “الشيء يدرك ولا يحس به”. كما يقول “ديكارت” أيضا: “وإذن فأنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني”.
- لا ينبغي أبدًا الاعتماد على الإحساس وحده في المعرفة، لأن المعرفة الحسية مهما كانت قوتها لا تبلغ مرتبة الإدراك وتظل مجرد معرفة جزئية لا غير.
- يعد الإحساس حالة سلبية من وجهة نظر أنصار النظرية العقلية، والمعرفة فيها ظنية واحتمالية، فقد تكون خاطئة كما يؤكد “ديكارت”. لأنها تقتصر فقط على شهادة الحواس، كما أن الحواس يشترك فيها الإنسان والحيوان، بينما الإدراك يقتصر على عقل الإنسان.
- يرى علماء النظرية العقلية أن الإدراك عملية عقلية خالصة، وتظهر فعاليتها في مختلف الأحكام التي يطلقها الفرد على الأشياء المادية التي يتم إدراكها. يقول “ألان”: “وجود الشيء قائم في إدراكي أنا له”.
- يرى “ديكارت” أن إدراكنا للأشياء عملية عقلية وليست حسية، نظرا لأن الحواس غالبًا ما تخدعنا فنرى الأشياء على غير حقيقتها، فرؤيتنا للطائرة وهي تحلق في الفضاء تختلف عن رؤيتنا لها وهى على أرض المطار، ويقول “ديكارت”: “إننا لا نثق في الذي يخدعنا ولو مرة واحدة”.
- يقول “ديكارت”: “إذا نظرت من نافذة عالية لا ترى العين المجردة في الواقع سوى قبعات ومعاطف متحركة ومع هذا فإننا نحكم بأنهم أناس”.
- هناك فرق بين الإدراك والإحساس في التمييز ومعرفة قيمة الأشياء، فالشاب المهتم بالسيارات عندما يرى سيارة يدرك طرازها ومميزاتها وعيوبها، بينما الرجل العجوز غير المهتم بالسيارات يحكم عليها من خلال حواسه فيجدها سيارة متوقفة، دون أي إدراك لميزاتها وعيوبها.
نقد النظرية العقلية في الإدراك:
قام العديد من علماء النفس بنقد النظرية العقلية في الإدراك في عدة نقاط منها:
الاعتماد في عملية الإدراك على العقل فقط يعد نوعًا من التعسف بعيدًا عن الواقع، فاعتبار الإدراك عملية عقلية خالصة دون الرجوع للحواس يعد خطأ فادحا، فكل إدراك يحمل في طياته عوامل حسية، فبدون التجارب الحسية يصعب على العقل إدراك الأشياء.
صعب الفصل بين الحواس والعقل في عملية الإدراك المعرفي، فمعظم معارفنا ونحن أطفال اكتسبناها من خلال الحواس وليس العقل.
نظرية الإدراك الحسي
يرى أنصار نظرية الإدراك الحسي ومنهم الفيلسوف جون لوك، ديفيد هوم هذه النظرية أن؛ الحواس هي المصدر الحقيقي لكل معرفة؛ فالطفل الصغير يكتسب العديد من الخبرات من خلال الحواس، وأن الإدراك يحدث لنا نتيجة لتأثر حواسنا بالمنبهات الخارجية، وقد عبر عنها الفيلسوف والعالم “جون لوك” أن أعضاء الحواس هي التي تستقبل المؤثرات وتنقل إلى العقل الانطباعات الحسية.
كما يرى أنصار النظرية الحسية أن إدراكنا للأشياء الخارجية متوقف على صفاتها وكيفية الإحساس بها، وإذا كانت هذه الصفات مترابطة، فإن عقولنا تصلها هذه الصور بشكل منفصل، فتكون انطباعاتنا الحسية جزئية ولكن العقل هو الذي يربط هذه الانطباعات ويكون منها إدراكا. مثل: إدراك البرتقالة فبمجرد أن نرى جزءا منها أو نشم رائحتها ولونها نتذكر طعمها، ويقول “جون لوك”: إن الحواس والإدراك هما وجهان لعملة واحدة.
مبررات نظرية الإدراك الحسي:
يبرر أنصار تلك النظرية أن الإحساس هو مصدر الإدراك الأول ممن خلال مجموعة من الأدلة منها:
- من المستحيل أن يتم الإدراك بدون الإحساس، بالحس نتفاعل مع العالم الخارجي وبه نتمكن من تحصيل المعارف.
- يرى الفيلسوف “ديفيد هيوم” أن الإدراك عبارة عن انطباع المحسوسات نتيجة التأثر بالحواس، فعقل الطفل لا يدرك البرودة والسخونة إلا من خلال الحواس.
- يؤكد الفيلسوف “كوندياك” أن الحواس هي الوسيلة الوحيدة للمعرفة، حتى ولو اشترك الحيوان مع الإنسان في ذلك، مبررًا أن عقل الإنسان مبرمج على تحويل المعارف الحسية لمدركات.
نقد النظرية الحسية:
- أهمل أنصار النظرية الحسية دور العقل وقصروا مهمته في استقبال الانطباعات الحسية فقط.
- هناك بعض الأحاسيس تتكون غير واقعية نابعة عن تجربة شخصية.
- بعض البشر يولدون دون حواس كاملة، مثل الكفيف ولكن عقلهم يقوم بعملية الإدراك من خلال التجارب.
نظرية الشّكل أو الجشطلت
الجشطلت تعني الشكل باللغة الألمانية، وقد أُسست هذه النظرية في ألمانيا في نهاية القرن 19 م، لذا يُطلق على الجشطلتية اسم علم نفس الشكل وأنصار هذه النظرية العلماء الألمان فرتهيمر، كوفكا وكوهلر وهم يقرون بأن أساس الإدراك هو الشكل وأن المعرفة التي تصل إلى الإدراك تمر بثلاث مراحل وهي:
الصورة الكلية
أساس الإدراك عند الجشطلت هو الشكل والصورة الكلية ثم الصورة الجزئية، فهم يرون أنه مثلًا لكي نستطيع دراسة ظاهرة أرضية ينبغي لنا دراسة الأرض ككل ثم التدرج إلى الظاهرة الأرضية.
الشكل والأرضية
- يميل الإنسان في الإدراك البصري إلى إدراك الشكل الذي هو بؤرة الاهتمام وإهمال الأرضية، فعندما نرى صورة سيارة نركز على شكل السيارة ولونها ولا نهتم بخلفيتها.
- يرى أصحاب مدرسة الجشطلت أنه لا يمكن الفصل بين الإحساس والعقل، فالإنسان يدرك الشكل (الأشياء ككل) قبل إدراكه العناصر الجزئية، فالأنغام الموسيقية مثلًا لا قيمة لها إلا إذا سمعنها ضمن مقطوعة موسيقية كاملة.
وضع المدرسة الجشطالتيون قوانين تعرف بقوانين تنظيم الإدراك ومنها:
قانون التقارب والتجاور:
فالإنسان لا شعوريًا يميل إلى فهم الأشياء المتقاربة، فالعناصر المتقاربة يفسرها العقل ويدركها على أنها وحدة واحدة مثل: رفوف المتجر نجد الكعك بجانب المقرمشات والسكاكر، فندرك رغم اختلاف ما يوجد على الأرفف من منتجات على أنه هذا قسم الحلوى.
قانون التشابه:
نحن نميل بطبيعتنا إلى إدراك الأشياء المتشابهة في الشكل أو الحجم أو اللون.
قانون الإغلاق:
يميل الإنسان لفهم وإدراك الأشياء الناقصة وإدراكها كاملة، فعندما نرى رسم دائرة ناقصة وغير مغلقة ندرك أنها دائرة ونكمل الفراغ الناقص؛ فالعقل يكمل الفراغ، كذلك الأحرف العربية المنقوطة نستطيع قراءتها بدون نقاط.
نقد نظرية الجشطلت
رغم اجتهاد علماء نظرية الجشطلت ونجاحها في عملية التعلم خاصة في مرحلة رياض الأطفال، لكن ذهب بعض المتخصصين إلى نقد هذه النظرية، فهم يرون أن العقل عند الجشطلت في وضع المستقبل السلبي وهذا غير صحيح فالعقل يقوم بعدة أنشطة مثل الحكم والتفسير.
يرى نقاد نظرية الجشطلت في الإدراك أنهم عظموا من دور الظواهر الخارجية وأضعفوا دور العوامل الداخلية المتمثلة في تجارب الفرد الماضية وظروفه الراهنة في عملية الإدراك.