قبل أكثر من 30 عامًا، أنقذ ستانيسلاف بيتروف العالم من كارثة نووية حقيقية، كادت لتعتبر بمثابة الإعلان عن حربٍ عالميةٍ ثالثة، لكن قبل ذلك؛ من هو هذا الرجل الذي ربما ندين إليه بالفضل -بعد الله- لوجودنا الآن على هذه الأرض؟
ماذا تعرف عن الحرب الباردة؟
قبل التطرُّق لبطل قصتنا الروسي ستانيسلاف بيتروف، علينا أولًا أن نحدثك عن النزاع الذي ظل قائمًا بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي والذي عُرف اصطلاحًا بالحرب الباردة.
الحرب الباردة كمفهوم؛ تشير إلى الصراعات والأزمات التي مرّت بها بعض الدول عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، والتي استمرت لنحو 50 عامًا قبل أن تنتهي في 1989.
وكان مصطلح الحرب الباردة يستخدم كإنذار يوضّح إمكانية نشوب حرب عالمية ثالثة بأي لحظة، خاصةً بعدما انقسمت دول العالم كافة إلى معسكرين، الأول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني بالطبع بقيادة الاتحاد السوفييتي، وبعد أن ساد العالم حالة تعرف تاريخيًا بحالة الرُعب النووي، أي انتظار اللحظة التي ستقوم فيها إحدى الدول ببدء الحرب النووية التي ستنهي العالم بدورها.
بالثمانينيات كانت الحرب الباردة في مرحلتها الثالثة، التي بدأت قبل ذلك بـ40 عامًا، عقب وفاة الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين عام 1956، وتخللتها العديد من الأحداث التي كادت تشعل فتيل الحرب مثل الحصار الأمريكي لكوبا، المعروف بأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 والصراع العربي الإسرائيلي الذي احتدم في 1967، ثم حرب أكتوبر 73، وصولًا إلى حرب لبنان 1982.
بوصول ميخائيل جورباتشوف إلى زعامة الاتحاد السوفييتي عام 1985، وتبنيه لسياسة ضرورة التعايش السلمي، بدا أن حالة الحرب في طريقها لأن تنتهي إلى الأبد، في نفس الوقت الذي تراجعت فيه وتيرة سباق التسليح النووي.
ستانيسلاف بيتروف.. الرجل الذي أنقذ العالم
ولد ستانيسلاف بيتروف في سبتمبر 1939 بالقرب من مدينة فلاديفوستوك الروسية، لوالد يعمل كطيار مقاتل، ووالدة تعمل كممرضة.
التحق بتروف بكلية كييف التقنية العليا للهندسة والراديو التابعة للقوات الجوية السوفيتية، وبعد تخرجه في عام 1972 انضم إلى قوات الدفاع الجوي السوفيتية، وفي أوائل السبعينيات، تم تعيينه في المنظمة التي أشرفت على نظام الإنذار المبكر الجديد الذي يهدف إلى اكتشاف هجمات الصواريخ الباليستية.
ماذا حدث؟
في الساعات الأولى من صباح يوم 26 سبتمبر 1983، رصدت أنظمة الإنذار المبكر التابعة للاتحاد السوفيتي ضربة صاروخية قادمة من الولايات المتحدة، حيث أشارت قراءات الكمبيوتر إلى إطلاق أمريكا عدة صواريخ، بينما كان بروتوكول الجيش السوفيتي هو الرد بهجوم نووي خاص.
لكن الضابط المناوب ستانيسلاف بيتروف – الذي كانت وظيفته تسجيل عمليات إطلاق صواريخ العدو الظاهرة – قرر عدم إبلاغ رؤسائه عنها، وبدلاً من ذلك اعتبرها إنذارا كاذبا، وربما كان ذلك خرقًا للتعليمات، وتقصيرًا في أداء الواجب، في حين كان التصرُّف الآمن الذي يجب القيام به هو نقل المسؤولية والإحالة، لكنه لسبب ما لم يفعل ذلك.
“كان لدي كل البيانات التي تشير إلى وجود هجوم صاروخي مستمر“.
-ستانيسلاف بيتروف لإذاعة بي بي سي.
لنضعك أمام الصورة كاملةً، كان بيتروف جزءًا من فريق مدرب جيدًا خدم في إحدى قواعد الإنذار المبكر التابعة للاتحاد السوفيتي، بالقرب من موسكو، وكان تدريبه صارمًا، وتعليماته واضحة جدًا، وهي تسجيل أي ضربات صاروخية وإبلاغ القيادة العسكرية والسياسية السوفيتية عنها، وطبقًا للمناخ السياسي لعام 1983، كان من شبه المؤكد أن يكون هناك رد فعل انتقامي من الجانب السوفييتي.
شلل تام
سرد ستانيسلاف بيتروف اللحظات التي عاشها بهذا الصباح، حين أطلقت صفارات الإنذار، وظل هو متجمدًا في مكانه، محدقًا للشاشة التي أمامه، والتي تتوسطها كلمة «إطلاق» حيث كان يخبره النظام بأن موثوقية هذا التنبيه من الدرجة الأعلى، بالتالي يعتبر هذا هجومًا وشيكًا على بلاده.
”بعد دقيقة، انطلقت صفارة الإنذار مرة أخرى، أطلق الصاروخ الثاني، ثم الثالث والرابع والخامس، غيرت أجهزة الكمبيوتر تنبيهاتها من “إطلاق” إلى “ضربة صاروخية”.
-بيتروف يحكي لبي بي سي تفاصيل الواقعة.
حقيقة؛ لم تكن هناك قاعدة بشأن المدة التي يسُمح للضابط المناوب فيها بالتفكير قبل الإبلاغ عن الضربة، لكن البديهي هو أن كل ثانية من التسويف سيكون لها أثر سلبي، لذلك يتحتم إبلاغ القيادة دون تفكير.
شكوك حول مصداقية الإنذار
على الرغم من أن طبيعة التحذير بدت واضحة تمامًا، إلا أن السيد بيتروف كان لديه بعض الشكوك، أكدها عدد من المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، الذين كانوا يراقبون القوات الصاروخية الأمريكية أيضًا، وأخبروه بأن رادار الأقمار الصناعية لم يسجل مشاهدة لأي صواريخ تنطلق صوب موسكو.
لكن هؤلاء الناس كانوا مجرد خدمة دعم، أما عن البروتوكول، فكان شديد الوضوح، حيث يجب أن يستند القرار إلى قراءات الكمبيوتر، لكن ما جعل الضابط يشك هو مدى قوة هذا الإنذار، دون مقدمات له.
كان قرار بيتروف وقتئذ هو إبلاغ مقر قيادة الجيش السوفييتي عن وجود عطل في نظام الإنذار، بدلًا من الإبلاغ عن القصة الحقيقية التي عاشها منذ لحظات، وبعد نحو 20 دقيقة، لم يحدث شيء، ليتأكد ستانيسلاف بيتروف من أن قراره كان صائبًا.
اقرأ أيضًا: الخدعة المثالية.. كيف زرع أطفال جهاز تنصت داخل مكتب السفير الأمريكي؟
ماذا لو؟
طبقًا لستانيسلاف بيتروف، فمن حسن الحظ أنه كان الشخص المخوّل له إصدار ذلك القرار، وليس غيره، لأن في هذه اللحظة كانت كل الاحتمالات قائمةً، كما اعترف أنه لم يكن متأكدًا من كونه إنذارًا خاطئًا من الأساس.
وأرجع بيتروف قدرته على اتخاذ قرار كهذا لكونه الوحيد من ضمن فريقه الذي تلقى تعليمًا مدنيًا، حيث كان كافة زملائه جنودًا محترفين، تعلّموا إعطاء الأوامر والامتثال لها حرفيًا، لا أكثر ولا أقل.
لذلك، يعتقد ستانيسلاف أنه إذا كان شخص آخر يعمل في هذه الوردية، لكان الإنذار قد أطلق، وبدأت معه انطلاقة حرب نوويةً لا نعلم كيف كانت لتنتهي.
تواضع ستانيسلاف بيتروف
في النهاية؛ لم ير ستانيسلاف بيتروف نفسه بطلًا على الإطلاق، بل يعتقد أنه قد قام فقط بعمله، حتى إنه لم يقُم بالإفصاح عن هذه القصة بنفسه، لكنها انتشرت كالنار بالهشيم عقب سقوط الاتحاد السوفييتي بعد سنوات ليتم تتويج جهوده ببعض الجوائز المعنوية لإنقاذه العالم من كارثة محققة.
في عام 1984، ترك بيتروف الجيش وحصل على وظيفة في معهد الأبحاث، الذي سبق له وطور نظام الإنذار المبكر في الاتحاد السوفيتي، ثم تقاعد لاحقًا حتى يتمكن من رعاية زوجته بعد تشخيص إصابتها بالسرطان، وذكر تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية عام 1998 أن بيتروف عانى من انهيار عقلي، وتوفي بيتروف في 19 مايو 2017 بسبب الالتهاب الرئوي الوريدي، ولم تعلن وفاته سوى في سبتمبر من نفس العام.