قبل نحو قرن من الزمان، خطب راهب هندوسي يدعى “سوامي فيفيكاناندا” في جماعة من الناس بولاية شيكاغو الأمريكية متحدثًا عن تاريخ اليوغا، التي كانت ممارسة مجهولة بالنسبة لعوام الناس، لكن بعد عدة عقود، تحولت هذه التمرينات من مجرد فلسفة إلى أسلوب حياة، واكتسبت شعبية ضخمة، لكن كيف حدث ذلك؟
كيف بدأ تاريخ اليوغا؟
كما ذكرنا يرجع تاريخ اليوغا كممارسة مشهورة إلى العام 1893،حسب معظم التقديرات، حين حاول فيفيكاناندا إقناع حشد من سكان شيكاغو بأهمية هذه التمارين لصحتهم وسلامهم النفسي، إلا أنه في الواقع لم يكن مرحبًا به، حيث لم تقابل حماسته بحرارة طبقًا لعديد الروايات.
ولد “سوامي فيفيكاناندا” في عام 1863 في عائلة ثرية في كلكتا الهندية، وعندما كان شابًا، تتلمذ على يد الصوفي “راماكريشنا” وأخذ عهودًا رهبانية على نفسه قبل وقت قصير من وفاة معلمه.
بعد السفر دخل الهند لمدة 5 سنوات، غادر فيفيكاناندا الهند للسفر إلى برلمان الأديان العالمي لعام 1893 في شيكاغو، وهو مؤتمر بين الأديان عقد خلال المعرض الكولومبي العالمي الضخم، وطبقًا للأسطورة الشائعة التي نشأت حول ظهور فيفيكاناندا في البرلمان؛ على الرغم من صعوبات السفر والعصبية، قام بمخاطبة الحشد بصفتهم “إخوته وأخواته” وسط تصفيق مدو، ما جعله يكتسب تقديرًا لدى الحضور.
ومن هنا ركب فيفيكاناندا موجة النجاح وألقى المحاضرات، وكتب الكتب، وفتح فروعًا لبعثة راماكريشنا المعروفة باسم جمعيات فيدانتا خلال جولتين منفصلتين في الولايات المتحدة، وأثارت جولات المحاضرات اللاحقة لفيفيكاناندا الفضول والاهتمام حول توجهاته، حيث وصف نفسه في رسالة إلى أحد طلابه الأمريكيين في عام 1897 بالواعظ كثير اللوم.
“اقرأ أيضًا: مراد الثاني.. السلطان الزاهد الذي تنازل عن عرشه مرتين
فلسفة اليوغا
كانت اليوغا التي قدمها فيفيكاناندا للجمهور الأمريكي مختلفة أيضًا عن الإصدارات المألوفة في عصرنا الحالي، حيث مال فيفيكاناندا إلى حد كبير لتعريف اليوغا باعتبارها مسألة فلسفة وعلم نفس وتحسين الذات، وليست مجرد تمارين جسدية أو تأملية. وكان عادة ما يستخدم ساومي مصطلحات تشير إلى القوة في محاضراته، للتدليل على أثر اليوغا كفكر في زيادة ثقة الإنسان بنفسه وإدراكه لحجم قوته الداخلية.
في الواقع، كانت ماهية اليوغا غائبة، أو غير مفهومة، فحين حاول فيفيكاناندا تعريف اليوغا على أنها فلسفة، عبر كتابات ومحاضرات، أو على أقل تقدير، نظام غذائي، أو نظام للتركيز العقلي أو تقنيات التنفس، كان ينظر لليوغا وكأنها شيء سحري.
وتغذت هذه الأفكار بفضل الروايات المنتشرة آنذاك عن عجائب الهند وجحافل السحرة المسرحيين الذين ارتدوا عمائم وأردية لأعمالهم الروتينية، لهذا، افترض معظم الأمريكيين في مطلع القرن أن اليوغيين يمتلكون قوى خارقة للطبيعة.
تاريخ اليوغا بالقرن الـ20
بحلول القرن الـ20، حدثت طفرة حقيقية لتاريخ اليوغا، حين حلت الممارسات القائمة على الوضع محل الممارسة باعتبارها فلسفة حياتية، ووفقًا لما ذكره مارك سينجلتون في كتابه (Yoga Body)، في أوائل القرن الـ20، تم دمج التقاليد الهندية للهاثا أو اليوغا الجسدية مع الأشكال الغربية للثقافة البدنية.
بالعودة إلى سوامي فيفيكاناندا، يعتقد أنه بالفعل كان أحد أهم أسباب هذه النهضة، والذي ساعد في تأطير اليوغا وفوائدها العملية في العلوم الطبية.
رفض هاثا يوغا
من أهم مراحل تاريخ اليوغا، كانت تلك المتعلقة برفض فيفيكاناندا لـ”هاثا يوغا”، وهي إحدى مدارس اليوغا التي تؤكد على ضرورة التمكن من الجسد كطريقة لبلوغ حالة من الكمال الروحي حيث يتم سحب العقل من الأشياء الخارجية، وامتلك فيفيكاناندا نفسه علاقة معقدة ومتناقضة مع هاثا يوغا.
ففي محادثات مع تلاميذه، كشف فيفيكاناندا أنه في أوائل عام 1890 حاول دراسة هاثا يوغا لعلاج حالته الصحية السيئة لكنه انسحب قبل أن يبدأ في الممارسة بعد رؤية معارضة لسيده الراحل “راماكريشنا”، الذي يعد معلمه ووالده الروحي.
وبينما كان فيفيكاناندا يرفض تعليم هاثا يوغا لجمهوره الأمريكيين، أطلق عليها اسم “الجمباز” و”تمارين التنفس الغريب” ويعتقد أنه قام بتدريس بعض المواقف التي تعتمد على هذا النوع من اليوغا لمجموعة صغيرة من طلابه المتفانين في نيويورك.
تغير النظرة لآسيا
وفقًا لسوزان نيوكومب، المحاضرة في الدراسات الدينية في الجامعة المفتوحة في المملكة المتحدة ومؤلفة كتاب اليوغا في بريطانيا، فإن فارة فيقيكاناندا تمثل نقطة تحول في كيفية فهم التدين الهندي خارج الهند، ونقطة تحول حقيقية في تاريخ اليوغا وانتقالها للعالم بأسره.
وعلى الرغم من الاعتراف الكامل بأن فيفيكاناندا لم يقم بنشر اليوغا بمفرده، ولكنه كان مهمًا بلا شك في المساعدة في تمهيد الطريق لتكرارات اليوغا الحديثة، حيث ألهم وقدم نموذجًا للعديد من المعلمين الآخرين من جنوب آسيا ليحذوا حذوه ويأتوا إلى الولايات المتحدة خلال العقود القليلة التالية، وكان من بينهم يوغاناندا، مؤسس زمالة تحقيق الذات ومؤلف كتاب السيرة الذاتية ليوغي.
إحياء هاثا يوغا بالولايات المتحدة
خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حصلت اليوغا على مكانة أعلى في أمريكا، ليس من قبل المعلمين الهنود الذين جاؤوا إلى الولايات المتحدة، ولكن بفضل المهاجرين الهنود الموجودين بالفعل في البلاد لكنهم فقدوا جنسيتهم وحقوقهم من خلال سلسلة من الدعاوى القضائية والتشريعات الفيدرالية.
“اقرأ أيضًا: جلال الدين الرومي.. الشاعر صاحب الطريقة المولوية
قام العشرات من هؤلاء الطلاب والمهنيين والنشطاء السياسيين السابقين بإعادة تشكيل أنفسهم عن طريق سلطات صوفية، حيث سافروا عبر البلاد وكسبوا لقمة العيش بإلقاء محاضرات عامة ودروس خاصة وخدمات شخصية في كثير من الأحيان.
وصفهم الكاتب الأمريكي تشارلز فيرغسون بسخرية في عام 1938 بأنهم بائعون متنقلون، حيث قال للقراء إنه “في كل شتاء يمكننا أن نجد إعلانات عن ظهور اليوغيين في مدن الشرق وخلال فصلي الربيع والصيف يعملون في الأماكن الخلفية”.
بحلول نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، كان إحياء هاثا يوجا في الهند قد شق طريقه إلى الولايات المتحدة، حين بدأت الأفكار السابقة عن اليوجا كقوة خارقة في التلاشي، وبدأت اليوجا المألوفة للممارسين المعاصرين بوضعياتها وتمارينها البدنية في الظهور، وبدأت مجلات الصحة وكمال الأجسام في الترويج لليوغا وبدأ معلمو اليوغا في إضافة الأساناس -أحد أنواع اليوغا العلاجية- إلى فصولهم الدراسية.
تعميم اليوغا
يعتقد أن آخر تحول شهده تاريخ اليوغا كان في ستينيات القرن الماضي، حين استخدم العديد من الأمريكيين مثل ريتشارد هيتلما وليلياس فولان التلفاز لتقديم أشكال اليوغا العملية التي يمكن توصيلها لجمهور عريض، وفي وقت لاحق من هذا العقد، قام أعضاء حركة الـ”هيبيز” المضادة للثقافة والعصر الجديد بنشر اليوغا بشكل أكبر وأسسوا العديد من المؤسسات التي سمحت بنموها المستمر.
بحلول الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، أدى إدخال أشرطة “VHS” وأقراص “DVD”، إلى جانب ظهور صناعة اللياقة البدنية، إلى جعل اليوغا جزءًا من روتين عدد لا يحصى من الأمريكيين في منازلهم أو في صالة الألعاب الرياضية المحلية، في حين أصبحت اليوغا حاليًا صناعة منتشرة بمليارات الدولارات يمارسها عشرات الملايين من الناس وتوجد في عشرات الآلاف من الاستوديوهات في جميع أنحاء البلاد.
ختامًا لا يمكننا إرجاع تاريخ اليوغا وانتشارها لفرد بعينه، لكن بالتأكيد ساهم الجميع في تطور هذه الفلسفة وتحولها من معتقد آسيوي لصناعة ضخمة يعرفها القاصي والداني، وربما يرجع السبب في ذلك إلى سعي البشر عامة إلى تحقيق السلام النفسي الداخلي الذي يعد هدف اليوغا الأسمى.