بالعام 1994، أعلنت قناة بنما كواحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم الحديث، من قبل الجمعية الأمريكية للمهندسين، قبل أن تستضيف السفينة رقم “مليون” في سبتمبر من العام 2010، ليظل السؤال الأهم؛ ما هي أهمية هذه القناة، وما القصة خلف هذا المشروع العظيم؟
تاريخ قناة بنما؟
تمتد قناة بنما من خليج ليمون على المحيط الأطلسي إلى خليج بنما على المحيط الهادئ، يصل طول القناة إلى 77 كيلو مترًا، وتعود فكرة إنشاء ممر مائي عبر برزخ بنما لربط المحيطين الأطلسي والهادئ إلى القرن الخامس عشر على الأقل، عندما قام الملك “تشارلز الأول”، ملك إسبانيا بتعيين حاكمه الإقليمي لمسح طريق على طول نهر “شاجرز”، وكان تحقيق مثل هذه الفكرة عبر التضاريس الجبلية والغابات يعتبر مستحيلًا في ذلك الوقت، على الرغم من أن الفكرة ظلت محيرة باعتبارها اختصارًا محتملًا من أوروبا إلى شرق آسيا.
كانت فرنسا أول بلد يحاول القيام بهذه المهمة، بقيادة الكونت “فرديناند دي ليسبس”، صاحب فكرة حفر قناة السويس في مصر، حيث بدأ فريق العمل في حفر قناة بنما على مستوى سطح البحر في عام 1880، وسرعان ما أدرك الفرنسيون التحدي الهائل الذي ينتظرهم، بداية من الأمطار المستمرة التي تسببت في انهيارات أرضية، وصولا إلى انتشار الحمى الصفراء والملاريا.
الانطلاقة الحقيقة
كانت الانطلاقة الحقيقية لتنفيذ مشروع بناء القناة في عام 1902، حين اشترت الحكومة الأمريكية الأصول الفرنسية في منطقة القناة، وبعد مفاوضات مع الحكومة البنمية الجديدة منحت الولايات المتحدة الحيازة الحصرية والدائمة لمنطقة قناة بنما، وفي المقابل، تلقت بنما 10 ملايين دولار ودخلا سنويا قدره 250 ألف دولار بعد 9 سنوات.
عانى “جون والاس”، المهندس المسؤول عن تنفيذ المشروع، من نفس المشاكل التي وقع بها الفرنسيون، ليستقيل من منصبه عام 1905، ليحل “جون ستيفنز”، متخصص في السكك الحديدية، محله في يوليو 1905، ويعالج على الفور قضايا القوى العاملة من خلال توظيف عمال من غرب الهند، كما طلب ستيفنز معدات جديدة وابتكر طرقًا فعالة لتسريع العمل، مثل استخدام ذراع الرافعة المتأرجح لرفع أجزاء من مسار السكة الحديد وضبط مسار القطار لنقل المواد المحفورة بعيدًا، وسرعان ما أدرك الصعوبات التي تفرضها الانهيارات الأرضية وحاول حلها.
“اقرأ أيضًا: قصر البارون.. تحفة معمارية لا تغيب عنه الشمس”
ضحايا بالجملة
حتى تتخيل مدى صعوبة حفر القناة دعنا نخبرك أنّه كان على أطقم البناء تحريك الجبال في غابة موبوءة بالثعابين، في ظروف مناخية قاسية في موسم الأمطار، فطبقًا لأحد العمال الذين شاركوا في عمليات الحفر، كانت ظروف العمل في تلك الأيام، حيث كان الموت رفيق العمال، وكانت القطارات تنقل الضحايا وكأنهم أخشاب.
حسب كتاب “Panama Fever” لمؤلفه “ماتيو باركر”، فخلال الفترة الأولى لمحاولات شق قناة بنما على أيدي الفرنسيين، مات ثلاثة أرباع المهندسين المرافقين لدي ليسبس من الحمى في غضون أول 3 أشهر، وقدّر طبيب كندي أن ما بين 30 و40 عاملًا يموتون يوميًا خلال مواسم الأمطار.
ساهمت حملات التوعية الأمريكية بالفعل في إنقاذ آلاف الأرواح بمجرد تدخل الولايات المتحدة في عمليات الحفر وشق القناة، وتقلصت أعداد الضحايا بشكل كبير نتيجة لبعض الإجراءات التي أجبر علها العمال، مثل تبخير مقرات السكن، وتصريف مياه البرك، لكن مرض المالاريا كان أقوى، حيث قدر مفتش الصحة “جوزيف لو برينس” أن 80% من القوى العاملة تم إدخالها إلى المستشفى في وقت ما خلال عام 1906 بسبب الملاريا.
حوادث
مع انحسار خطر الحمى الصفراء، حلت الحوادث محل المرض كأكبر سبب للوفاة في منطقة القناة في عام 1909، حين حفر العمال حفرة بعمق 45 قدمًا وعرض 300 قدم على الأقل عبر امتداد جبلي يبلغ 8 أميال يعرف باسم “Culebra Cut”.
وفي عام 1908 وداخل المكان المعروف بمضيق الجحيم، حيث تتراوح مخاطر العمل بداخله ما بين الصعق وصولا إلى الغرق، انفجر في الجبال ما يزيد على 60 مليون رطل من الديناميت، عن غير عمد، نتيجة لاشتعالها بسبب المناخ الاستوائي في بنما، لتسفر هذه الحادثة عن وفاة 23 شخصا.
سجلت الولايات المتحدة وفاة 5855 عاملًا في القناة، وعند الجمع بين الوفيات الناجمة عن المشروع الفرنسي، يمكن القول إن العدد الإجمالي للوفيات بلغ 25 ألف إنسان.
افتتاح قناة بنما
افتتحت قناة بنما رسميًا في 15 أغسطس 1914، على الرغم من تخفيض الحفل الكبير المخطط له بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، لكن على العموم تم الانتهاء من هذا المشروع بتكلفة تزيد عن 350 مليون دولار، وكان أغلى مشروع من نوعه في تاريخ الولايات المتحدة حتى ذلك الوقت.
أثبتت قناة بنما أنها عنصر حيوي لتوسيع طرق التجارة العالمية في القرن العشرين، وبدأ الانتقال إلى الإشراف المحلي بمعاهدة عام 1977، التي وقعها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر وزعيم بنما عمر توريخوس، قبل أن تتولي هيئة قناة بنما السيطرة الكاملة على إدارتها في 31 ديسمبر 1999.
أهمية قناة بنما
تكمن أهمية قناة بنما بكونها ممرا مائيا ذا أهمية كبيرة من الناحيتين التجارية والعسكرية حيث يمر من خلالها سنويا ما يقارب 13 ألف سفينة من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادئ، أي بمعدل 37 سفينة في اليوم، وتقدر الحمولة لتلك السفن بحوالي 235 مليون طن متري في السنة، ونسبة 70% من السفن التي تبحر عبر هذه القناة تعمل بنقل البضائع المختلفة ما بين الموانئ في الولايات المتحدة الأمريكية ومن البلدان التي تستخدم قناة بنما بشكل مستمر وأبرزها دولتا كندا واليابان.
ختامًا، يعتقد المتخصصون أنّه منذ لحظة افتتاح قناة بنما بالعام 1914، أعيد تشكيل الجغرافية الاقتصادية للولايات المتحد الأمريكية، بالتالي كان لذلك تأثير على اقتصاد العالم بأسره بشكل أو آخر.