عادة ما يتم تجاهل تأثير معاهدة توردسيلاس في تشكيل العالم الجديد، على الرغم من أن هذه الاتفاقية التي أبرمت بنهاية القرن الخامس عشر كانت ربما السبب الرئيسي في شكل جغرافية العالم الذي نعرفه الآن، وما ترتب على هذا التغيير من آثار ثقافية واقتصادية وحتى سياسية.
معاهدة توردسيلاس
كانت معاهدة توردسيلاس لعام 1494 عبارة عن اتفاقية بين ملوك إسبانيا والبرتغال لتقسيم العالم بينهما إلى مجالين من النفوذ، حيث قاما برسم خط خيالي فاصل يسير في وسط المحيط الأطلسي، تاركًا الأمريكتين لإسبانيا، وغرب إفريقيا وأي شيء يتجاوز رأس الرجاء الصالح إلى البرتغال.
قبل إبرام الاتفاقية، كان الإسبان قد وجدوا طريقًا بحريًا لآسيا عبر المحيط الهادئ، كما قاموا بغزو بلاد «الأزتيك» و«الإنكا»، بينما أبحر البرتغاليون بالمحيط الهندي، وأنشؤوا مستعمرات للبرتغال في البرازيل.
ومع هذا التوسُّع الاستعماري، تنازعت إسبانيا والبرتغال على حقوقهما في بسط نفوذهما على العالم، وهي المعضلة التي لم تُجد المعارك العسكرية نفعًا في حلها.
اقرأ أيضاً: قناة بنما.. والقصة وراء حفر أعجوبة العالم الجديد السابعة
عندما انقسم العالم
قبيل التطرق لمعاهدة توردسيلاس، علينا أن نفهم أولًا كيف تحوّل العالم بأسره إلى مستعمرات خاصة بالبرتغال وإسبانيا.
حركات الاستكشاف البرتغالية
بدأ البرتغاليون بشكل متواضع في بناء إمبراطوريتهم، حيث استعمروا أولاً مجموعات جزر شمال الأطلسي غير المأهولة في ماديرا عام 1420، ثم جزر الأزور عام 1439، وأخيرًا الرأس الأخضر من عام 1462.
لكن اللحظة الأهم كانت عندما تم الإبحار في «كيب بوجادور» بالصحراء الغربية الإفريقية بالعام 1434، من قبل المستكشف «جيل إينيس»، حيث تمكن البرتغاليون من الوصول إلى التجارة والموارد في غرب إفريقيا للمرّة الأولى دون التعامل مع تجار شمال إفريقيا المسلمين.
بدايةً من العام 1481، دفع ملك البرتغال الجديد «يوحنا الثاني» جيشه لاستعمار المزيد من المناطق، لكن المشكلة الأساسية كانت حين اصطدم جيش البرتغال بنظيره الإسباني بمجموعة جزر الكناري (الإسبانية حاليًا)، ومن هنا احتدمت المنافسة بين القوتين العظميين لذلك العصر.
اقرأ أيضًا: «معضلة بورتوريكو».. هل هي ولاية أمريكية أم دولة مستقلة؟
مقاومة إسبانية
صدّت القوات الإسبانية الهجمات البرتغالية في أكثر من مناسبة، دفاعًا عن جزر الكناري، لكن الأمر ظل كما هو عليه دون التوصُّل لحل.
دخلت إسبانيا والبرتغال في حالة حرب، امتدت لنحو 5 سنوات، في حين انتهت هذه الحرب بإبرام معاهدة سلام، شهدت أولى محاولات التسوية، وتقسيم المناطق الجغرافية بين الإسبان والبرتغاليين.
ونصّت بنود هذه الاتفاقية التي سبقت معاهدة توردسيلاس على الاعتراف بأحقية إسبانيا بجزر الكناري، على أن تحصل البرتغال على حق السيطرة على جزر ماديرا والرأس الأخضر، إضافة لطريق التجارة بغرب إفريقيا.
اكتشاف الأمريكتين
بنهاية القرن الخامس عشر، أصبح العالم فجأة أوسع، بفضل حركة المستكشفين، فقد تم اتخاذ الخطوة الأولى في عام 1488 من قبل الملاح البرتغالي «بارتولوميو دياس» الذي أبحر أسفل ساحل غرب إفريقيا وقام بأول رحلة حول رأس الرجاء الصالح (جنوب إفريقيا حاليًا).
بينما وجد «كريستوفر كولومبوس» بالعام 1492 أن هنالك قارة بأكملها (القارة الأمريكية) تفصل بينه وبين ما كان يعتقد أنه طريق بحري لآسيا.
كان كولومبوس قد أبحر في هذه الرحلة ممثلاً التاج الإسباني، وكان الملك فرديناند الثاني ملك إسبانية وزوجته الملكة إيزابيلا الأولى ملكة قشتالة، حريصين كل الحرص على المطالبة بهذه الأرض الجديدة لأنفسهم، ومقاومة أي منافسة عليها من قبل المنافسين الأوروبيين وخاصة البرتغاليين.
اللجوء للبابا
طلب أفراد العائلة الإسبانية من «البابا ألكسندر السادس» التدخُّل من أجل تسوية النزاع، وهو ما حدث حين أصدر ألكسندر، الذي يُعتقد أن يميل للجانب الإسباني، مرسومًا بابويًا عام 1493، معلنًا أنه يجب تقسيم العالم بخط وهمي يمتد بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي، على أن يكون كل ما هو غرب هذا الخط إسبانيًا، وكل ما هو شرقه برتغاليًا، مضيفًا بندا يحرم أيًّا من القوتين من المطالبة بحق السيادة على أي مملكة مسيحية يتم اكتشافها بالمستقبل.
في الواقع، لم يكن أي من الجانبين راضيًا تمامًا عن نصيبه من الأرض أو الغموض المتعلق بالاستحواذ المستقبلي على الأراضي غير المكتشفة، ما دفع دبلوماسيين من الجانبين لإعادة التفكير.
عقب ذلك، التقى رسامو الخرائط وممثلون من كل من إسبانيا والبرتغال، إلى جانب المبعوث البابوي للعمل كوسيط، لمناقشة ما يجب القيام به بعد ذلك، وكان مكان الاجتماع بلدة صغيرة في شمال غرب إسبانيا تعرف بتوردسيلاس، ومن هنا أطلق على هذه الاتفاقية اسم معاهدة توردسيلاس.
اقرأ أيضًا: حرب الوردتين.. «صراع العروش» الحقيقي على التاج البريطاني
بنود معاهدة توردسيلاس
تم التوقيع على معاهدة توردسيلاس في 7 يونيو 1494، وتم الحفاظ على قرار البابا ألكسندر، مع تعديل بسيط على خط الترسيم الذي أقرّه.
لكن بشكل ساخر، كان الخط الذي قسم العالم وفقًا لمعاهدة توردسيلاس وهميًا، ما يعني أنّه من الناحية العلمية، لا يمكن للبحّارة من كلا الجانبين إدراك الحدود التي لا يجب أن يتخطوها أثناء رحلاتهم، لكن على الرغم من غموض بنود معاهدة توردسيلاس، إلا أنّها على الأقل وضعت خطوطًا عريضة بشأن مناطق النفوذ الخاصة بكل جانب.
ومن ضمن بنود معاهدة تودسيلاس أيضًا، كان السماح لسفن أي من البلدين بالإبحار عبر المياه الواقعة في نطاق الولاية القضائية للطرف الآخر إذا كان القصد هو الوصول إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرتهما، ما يعني أن البحار أضحت أقاليم حرّة، يُمنع الصدام العسكري بداخلها.
في النهاية؛ ومنذ أن أُبرمت معاهدة توردسيلاس، تحوّل العالم بأسره لنصفين؛ نصف تحت سيطرة الإسبان وآخر تحت سيطرة البرتغاليين، وهذا ما يُمكن أن نلحظه بسهولة في عصرنا الحالي، حيث تتحدث شعوب أمريكا الجنوبية بالإسبانية باستثناء البرازيل، بينما تتحدّث بلاد غرب إفريقيا البرتغالية، وبالطبع كان ذلك نتاجًا لاتفاقية التقسيم التي أُبرمت قبل قرون.