يمتلك سكان مدينة غولبرن الأسترالية ما يعرف بالتعددية اللغوية، وهي إحدى أغرب السمات التي قد تسمع عنها، وتعني قدرة جميع سكانها على التفاهم فيما بينهم بتسع لغات مختلفة، ما يجعلها ظاهرة تستحق الدراسة.
أين تقع مدينة غولبرن؟
تعد مدينة غولبرن مدينة إقليمية، تقع بمنطقة «تايبلاندز الجنوبية»، وتبعُد نحو 195 كيلومترًا عن مدينة «سيدني»، وطبقًا لآخر التقديرات، يبلغ عدد سكان هذه المدينة نحو 24 ألف نسمة.
ينتمي السكان الأصليون لهذه المدينة إلى ما يعرف بـ«شعب مالوراي»، وينتمون بشكل أكثر دقة لمجموعتين رئيسيتين وهما؛ «غاندانغارا» و«نغوناوال»، لكن منذ عام 1820، قامت الحكومة الاستعمارية البريطانية بمنح مساحات من الأراضي لمستوطنيها، ما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان الأصليين.
قد يهمك أيضًا: حديقة الولاية المظلمة في هاواي.. ظواهر خارقة وحكايات مرعبة
مجتمع وارويو والتعددية اللغوية
في جزيرة غولبرن الجنوبية، وهي جزيرة صغيرة حرجية قبالة الساحل الشمالي لأستراليا، توجد مستوطنة تسمى «وارويو»، تتألف من حوالي 500 شخص يتحدثون فيما بينهم حول 9 لغات مختلفة.
هذه واحدة من آخر الأماكن في أستراليا -وربما في العالم- حيث توجد العديد من لغات السكان الأصليين معًا، حيث توجد لغات «موانغ»، «بينينغ»، «نينغ كونووك»، «يولونغو ماثا»، إضافة لأربع لغات محلية أخرى، بجانب اللغة الإنجليزية بكل تأكيد.
لهذه تعتبر مدينة غولبرن جزيرة متعددة اللغات، فبغض النظر عن الإنجليزية التي يتحدثها معظم السكان في أستراليا، جميع السكان قادرون على فهم بعضهم البعض، لكن الأغرب بهذا الصدد، أنّه وعلى الرغم من فهم السكان للغاتهم المختلفة، إلا أنّهم لا يستطيعوا التحدُّث بها كلها، فكيف يحدث ذلك؟
اقرأ أيضًا: لماذا يرفض سكان جزيرة سينتينل الاتصال بالعالم الخارجي؟
ما هي التعددية اللغوية؟
يُعرّف اللغويون هذه الظاهرة المنتشرة في هذه المنطقة من مدينة غولبرن باسم «التعددية اللغوية المستقبلة»، وهي ظاهرة منتشرة بمناطق كثيرة بالعالم، على سبيل المثال لا الحصر؛ يمكن للعديد من الناطقين باللغة الإنجليزية والذين يعيشون في الولايات الحدودية للولايات المتحدة الأمريكية، قراءة وفهم قدر كبير من اللغة الإسبانية من مجرّد التعرض لها.
فنجد أعداد لا تحصى من الأطفال المهاجرين القادرين على فهم لغة البلد المضيف، مع الاحتفاظ بالقدرة على فهم لغات آبائهم، بينما في أماكن أخرى، تعد التعددية اللغوية المستقبلة بمثابة حل بديل لبعض المواقف المؤقتة، لكن في مستوطنة «وارويو»، يبدو الأمر مختلفًا بعض الشيء.
اقرأ أيضًا: حقائق وغرائب شهدها يوم الرعب العالمي «الهالوين
كيف يستخدم البشر اللغات المختلفة؟
أدركت «روث سينجر»، عالمة اللغة، مفهوم التعددية اللغوية بالصدفة عام 2006، خلال إحدى رحلاتها للعمل الميداني بمدينة غولبرن الجنوبية، حيث تعرّفت على زوجين من السكان المحليين، وفوجئت حين لاحظت أن الزوج كان يتحدث بلغة معينة أثناء حوار مع زوجته، بينما كانت ردود الزوجة تأتي بلغة مختلفة.
بعد هذه الحادثة، حاولت سينجر ضبط أذنها لمحاولة تفسير كيفية استخدام الناس للغات مختلفة أثناء نقاش واحد، حيث بدأت في الاستماع لمناقشات العديد من الأشخاص بمدينة غولبرن وتحديدًا مستوطنة «وارويو».
تفسيرات
طبقًا لسينجر، هنالك عدد من التفسيرات لهذه الظاهرة، لربما يظهر مفهوم التعددية اللغوية على أنّه رغبة من فئة معينة، تتحدث لغة معينة، في أن تظهر أقل تعددية، رغبة في إقصاء أصحاب اللغات الأقل انتشارًا فيما بعد.
لكن بشكل أكثر شمولية، يتجنب الأشخاص في مجتمع وارويو الواقع بمدينة غولبرن الأسترالية استخدام لغة مشتركة، لأن هناك تكاليف اجتماعية وشخصية للقيام بذلك.
وتصر بعض العائلات على أن يتحدث أطفالهم لغتهم الأصلية فقط، وعادة ما تكون لغة الأب، بجانب ذلك ترتبط اللغات بقطع معينة من الأرض أو الأقاليم في الجزيرة، وتدعي العشائر ملكية تلك الأرض، لذلك تعتبر اللغات أيضًا مملوكة لهذه العشائر.
اقرأ أيضًا: كوش المنسية.. مملكة البشرة السمراء في مصر
تاريخ التعددية اللغوية في أستراليا
بعيدًا عن مدينة غولبرن، تعتقد سينجر أن التعددية اللغوية قد طرقت باب أستراليا في العموم منذ زمن بعيد، حيث لوحظت هذه الظاهرة بداية من القرن الثامن عشر، عن طريق المستوطنين الأوروبيين، الذين وجدوا أنّه على الرغم من تفهُّم السكان الأصليين والجدد لبعضهم البعض، إلا أنهم أصرّوا على التحدث بلهجات مختلفة من نفس اللغة.
حالة مشابهة
في سويسرا، تم إضفاء الطابع المؤسسي على التعددية اللغوية المستقبلة في بعض الأماكن، حيث أصبحت دولة ذات 4 لغات رسمية، حيث تم دمج التعددية اللغوية المستقبلة في النظام التعليمي، بحيث يتعلم الأطفال لغة محلية ولغة وطنية ثانية والإنجليزية منذ سن مبكرة، وهذا ما يسمح للجميع بفهم كل شخص آخر.
في النهاية؛ ربما ينتج عن التعددية اللغوية بعض التعقيد، الذي يمنعنا أحيانًا عن فهم طبيعة المجتمع وثقافته، لكنها تظل في نفس الوقت مفتاحًا لضمان استمرار اللغات المختلفة وحمايتها من الانقراض، فطالما امتلكت أجيال بأكملها القدرة على فهم وإنتاج لغة بعينها، حتى ولو على نطاق محدود، يمكننا ضمان حماية تراث هذه المجموعات، ولم لا استخدام هذه اللغات في المستقبل.