تعرف حلبات الموت في روما القديمة بقسوتها ووحشيتها، واقتصارها ربما على الرجال الأشداء، إلا أن بعض المصادر القليلة المتوفرة حول الحياة وقتها، تذكر مشاركة النساء أحيانًا كمصارعات أو مجالدات، حيث تقاتلن باستخدام الأسلحة من أجل الترفيه، خلال أواخر الجمهورية الرومانية والإمبراطورية الرومانية المبكرة، لكنهن دون شكٍ لم يكنّ بنفس وحشية الرجال بهذه الفترة، وفيما يلي نستعرض أبرز الأدلة التي تثبت وجود مصارعات إناث في هذه البقعة من العالم.
أدلة مكتوبة
يحتوي التاريخ المكتوب على العديد من الروايات عن المصارعات في روما القديمة، ويصف المؤرخون في ذلك الوقت تنافس النساء مع بعضهن البعض على أنه “أعمال ما بعد العشاء” في القرن الأول قبل الميلاد، حيث تُقاتل النساء الوحوش والأقزام ونساء أخريات، تحت إشراف الأباطرة «نيرو» و«تيتوس» و«دوميتيان».
ويظهر نقش عُثر عليه في مدينة أوستيا الساحلية، أن قاضيًا محليًا يتفاخر بأنه أول من أتاح النساء المقاتلات والمصارعات لمن أرادهن منذ تأسيس المدينة، وهذا ما يؤكد وجود مصارعات على درجة كبيرة من الكفاءة والشجاعة.
اقرأ أيضا: سباق الصراصير.. وأغرب المنافسات الرياضية حول العالم
من كل الأطياف
على عكس ما قد تظُن، لم تكن المصارعة حكرًا على النساء اللاتي يحتجن إلى المال، فبعضهن كان ينتمي لعائلات النخبة، بالتالي شاركت النساء من جميع الطبقات تقريبًا.
بشكل عام، عملت النساء المستعبدات لدى العائلات الثرية، وطبقًا لـ”ديفيد إس بوتر”، أستاذ الكلاسيكيات في جامعة ميشيغان الذي كتب كثيرًا عن الرياضات القديمة، كان أصحاب العمل يستغلون فرصة تواجد فتاة مستعبدة قوية، من ثم يقومون بتدريبها كمصارعة؛ لأنها ستتمكّن بداهةً من جني أموال طائلة.
بينما يرى بوتر أن نساء الطبقة الوسطى والنخبة بروما القديمة قاتلن كمصارعات لأسباب مغايرة، حيث اعتبرن رياضة المصارعة أمرا مثيرا، مختلفا، والأهم؛ أنه يثير استياء أولياء أمورهن.
في ذلك الوقت، كانت النساء تمارس مجموعة متنوعة من الرياضات ويحافظن على لياقتهن، حيث شجعهن المسؤولون الرومان على امتلاك القوة من أجل الولادة.
كانت رياضة المصارعة في روما القديمة بمثابة التوجُّه، فبعد ضمان تحمل النساء الثريّات تكاليف التدريب، وامتلاكهن وقت الفراغ لممارسة الرياضة، شجع مديرو فرق المصارعة المحترفة النساء البارعات رياضيًا، على ممارسة وتجربة رياضة المصارعة.
ومع ذلك أقر مجلس الشيوخ الروماني قوانين في عامي 11 و19 بعد الميلاد تحظر على نساء الطبقة الوسطى والعليا القتال كمصارعات، والاكتفاء بالمستعبدات فقط.
المصارعات في الفن الروماني
يوجد عمل فني واحد فقط موجود في المتحف البريطاني يصور المصارعات الإناث في روما القديمة، وهو عبارة عن نقش رخامي قديم عثر عليه في “هاليكارناسوس”، في ما يعرف الآن بتركيا، يظهر امرأتين تتقاتلان بالدروع والسيوف وواقيات الساق.
تم تسمية هذا العمل” باسم أمازون وأكيليا”، ومن المحتمل أن تكون أسماء مسرحية لاستحضار الأساطير اليونانية، ويشير نقش فوق رؤوسهن إلى أنهما قاتلتا من أجل قرعة مشرفة.
وبهذا الصدد، يقول العلماء إن الأعمال الفنية الأخرى التي تمثل المصارعات، ربما أسيء تفسيرها لعدة قرون، ومن ضمنها منحوتة برونزية من القرن الأول بعد الميلاد، محفوظة في متحف “für Kunst und Gewerbein” في ألمانيا، اتضح أنّها خاصة بمصارعة رومانية، على الرغم من تفسيرها بالسابق على أنّها لفتاة تحمل أداة تنظيف، وتشير إعادة تقييم أجراها باحث إسباني في عام 2011 إلى أن المنحوتة كانتل، أنثى مصارعة ترفع سيفًا قصيرًا منحنيًا، يُطلق عليه اسم “سيكا”.
جاء أحد أكثر الاكتشافات إثارة للاهتمام في عام 1996، عندما اكتشف علماء الآثار من متحف لندن، جزءًا من حوض امرأة بين رماد الجثث المحترقة في مقبرة متقنة من العصر الروماني في منطقة لندن بساوثوارك، وتشير العناصر الزخرفية إلى أنّ هذا المكان كان مقبرةً لإحدى مصارعات روما القديمة.
اقرأ أيضًا: المصارعة الحرة… حقيقة أم تمثيل
تقليد المُجالدة بروما القديمة
تاريخيًا، هناك الكثير من الأدلة الباقية عن المجالدين (المصارعين) الذكور، الذين قاتلوا لما يدنو من 1000 عام في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، والتي امتدت في ذروتها من غرب آسيا إلى الجزر البريطانية.
في روما القديمة نفسها، بدأت تقاليد المصارع كجزء من خدمات الجنازة الفخمة في القرون الأولى قبل الميلاد، لا سيما بين الأرستقراطيين الطموحين سياسيًا، وفي عام 65 قبل الميلاد، استخدم “يوليوس قيصر” 320 زوجًا من المصارعين ظاهريًا لتكريم والده المتوفى منذ زمن طويل.
على الرغم من دموية مثل تلك التقاليد، كان يُنظر إلى المصارعين على أنهم نماذج للقوة والشجاعة، التي يمكن أن تلهم الحشود لمزيد من الولاء لروما.
ظهور المصارعات الإناث
مع مرور الوقت، تحولت المصارعة الرومانية إلى مسابقات يتوق الجميع لمشاهدتها، وبالتبعية، شعر المتفرجون بالملل من كثرة مشاهدة الذكور يتقاتلون، ما دفع الرعاة للتفكير في محاولة التجديد، عبر إقحام السيدات في المشهد.
وفقًا للمؤرخ الروماني “كاسيوس ديو“، أقام “نيرون” معرضًا في عام 59 ميلاديا، تصارع خلاله المتسابقون من الجنسين، ومن كل طبقات المجتمع، سواءً بإرادتهم أو رغمًا عنهم، بينما بحلول عام 66 ميلاديًا، كان لدى نيرون مصارعات نساء يتقاتلن في عرضٍ لتكريم والدته التي قتلها بنفسه.
في روما القديمة، نظر المجتمع نظرة قاتمة لتنافس السيدات بحلبات المصارعة، فمثلًا؛ سخر الشاعر الروماني “جوفينال” من الرجال الذين سمحوا لزوجاتهم بالقتال.
بينما في عام 200 بعد الميلاد، حظر الإمبراطور “سيبتيموس سيفيروس” جميع المصارعات الإناث، بعد سماع بعض النكات البذيئة الموجهة للنساء، حيث خشي أن تولّد مثل هذه الرياضة حالة من عدم الاحترام لجميع النساء.
في النهاية، وبحلول القرن الخامس الميلادي، ومع انتشار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية، تضاءل اهتمام سكان روما القديمة بفكرة المجالدة أو المصارعة من الأساس، لأنّها تصرُّف لا يتماشى مع تعاليم الدين من جهةٍ، وبسبب ارتفاع تكاليف إقامة مثل تلك المسابقات على الإمبراطورية التي تتهاوى من جهة أخرى.