على أنقاض مدينة بلاساغون القديمة يطل برج بورانا، شاهقا بتفاصيله الدقيقة، فريدا في تكوينه كأحد أبرز وأقدم المباني المعمارية في منطقة آسيا الوسطى، شاهدًا على ازدهار وحضارة مدينة بلاساغون المندثرة، حاملا بين طياته أسطورة عجيبة، نسجتها أبهى صورة للهندسة المعمارية، ودقة بالغة في التصميم، ليصبح هذا النصب التذكاري من أهم الأماكن، التي يتوافد إليها الزوار حتى وقتنا هذا.
برج بورانا
برج بورانا أو مئذنة بورانا كما يُطلق عليها البعض، هو عبارة عن صرح شاهق الارتفاع، بني على أنقاض مدينة بلاساغون القديمة، (وهي كما أورد ياقوت الحموي في معجم البلدان: بلد عظيم في ثغور الترك وراء نهر سيحون قريب من كاشغر)، تحديدًا خلف القمم الجبلية المغطاة بالثلوج، لسلسلة الجبال الواقعة على بعد حوالي 80 كم، شرق عاصمة البلاد بيشكيك، بالقرب من بلدة توكموك شمال قيرغيزستان، والتي تعرف رسميا باسم الجمهورية القيرغيزية.
تاريخ البرج
ويعود تاريخ هذا البرج إلى نحو 1000 عام، والذي كان جزءًا من مسجد في مدينة بلاساغون، التي أسسها القراخانيون في القرن التاسع، وكانت تعد حينها من المدن المزدهرة جدًا، إذ تضمنت مسجدا وقلعة، كذلك كنيسة وبعض الأضرحة، حتى جاء المغول ودمروها في عام 1218، ليبقى البرج هو الشاهد الوحيد على ازدهار بلاساغون اليوم.
شُيد البرج في الأساس بارتفاع 45 مترا تقريبًا، ليصل ارتفاعه الحالي إلى نحو 25 مترًا، وذلك إثر ما تعرض له من تدمير وعوامل طبيعية على مر العصور، بالإضافة إلى ما خلفته الزلازل من أضرار جسيمة أدت إلى تناقص بنيان البرج، والتي كان آخرها خلال القرن الـ15، إلا أنه لا يزال بإمكان الزائرين والسياح الصعود إلى أعلى البرج واكتشافه، وذلك من خلال السلالم الخارجية، والدرج الدوراني الداخلي أيضًا.
ترميمه
أعيد ترميم البرج من جديد، في منتصف القرن الـ19، إذ قام بعض العلماء الروس بدراسة تفصيلية له، وبموجب ما صدر من السلطات السوفيتية، تم اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على هذا النصب التذكاري المعماري، ودراسة أساساته والألواح المحيطة به، وفي عام 1970- 197، تم استدعاء بعض موظفي وزارة ثقافة قيرغيزستان، للتعاون معهم في استعادة الأماكن المدمرة على النطاق الباقي للبرج، كما تم ترميم القاعدة أيضًا.
أسطورة العنكبوت
تقول الأسطورة إن البرج لم يكن جزءا من مسجد كما هو متداول، بل إنه يحمل بين طياته قصة شهد عليها العديد من الأشخاص في تلك الفترة، حيث تحكي الأسطورة عن رجل قوي ذي نفوذ وسلطة، أنجبت له زوجته فتاة جميلة، ليتحقق حلمه الذي طالما تعلق به، لذا قرر الرجل أن يحتفل بمولد ابنته، فأقام مأدبة كبيرة دعا من خلالها الرجال الحكماء، كذلك جميع العرافين في المدينة.
كان الهدف من دعوة العرافين هو معرفة مستقبل ابنته، والذي ظن أنه سيكون مستقبلًا باهرًا، مليئا بالسعادة والسلطة كما هو الحال معه، إلا أن آماله وظنونه السعيدة قد خابت، ليحل محلها الهلع والخوف والفرع، إذ فاجأه رجل من الحاضرين والذي كان من الحكماء، ليخبره أن ابنته ستموت إثر لدغة عنكبوت قاتلة، وذلك بمجرد بلوغها الـ16 من عمرها.
برج الحماية
سادت حالة من الفوضى والهرج في المكان، وتحول الحفل إلى مأتم، وأخذ الرجل يفكر مليًا لإيجاد حل سريع يستطيع من خلاله حماية ابنته الوحيدة، وإبقائها في معزل عن كل ما يؤذيها، وهكذا استقر أخيرًا على بناء برج مرتفع، ما دفعه إلى الاستعانة بأشهر المهندسين في ذلك الوقت، وأكثرهم إحاطة بالهندسة المعمارية، والذي استطاع تشييد البرج بمنتهى البراعة، وبنمط هندسي مميز جدًا، صنعه من الطوب بدلًا من البلاط المطلي الأكثر شيوعًا حينها.
هكذا أبقى الرجل ابنته وحيدة داخل البرج، وكان الخدم يحضرون لها أشهى وألذ الأطعمة، والتي يتم توصيلها من خلال السلم الموضوع مقابل البرج، بالإضافة إلى مجموعة من الخدم تم إرسالهم بصفة دورية لتنظيف البرج، ما يحيل وصول أي نوع من العناكب داخله.
وبحلول عيد ميلاد الفتاة الـ16، هرع إليها والدها حاملًا سلة تحتوي على شتى أنواع الفواكه، ممتنًا لكون ابنته لا تزال على قيد الحياة، إلا أنه كان في عجلة من أمره، لذا فقد فشل في ملاحظة العنكبوت السام داخل السلة، والذي لدغ ابنته لدغة مميتة، فور امتداد يدها إلى الفاكهة، في مشهد أخير تحققت فيه نبوءة الرجل الحكيم.
تكوين البرج
يتكون برج بورانا من قاعدة أساسية يرتكز عليها، مبنية من الحجر والطوب الأملس، الذي يبلغ ارتفاعه 5.6 متر، سطحه مستدير مزين بعدة خطوط تم تصميمها بالتناوب، والتي ينبثق منها الجزء العلوي الذي يحمل شكل منصة رباعية، اصطف وجهها الشرقي والشمالي بكتل من الرخام المنمق.
بخلاف الدرج المصمم لصعود الزوار، يوجد بالداخل درَج حلزوني مصنوع من الطوب، والذي بالكاد يكفي لمرور شخص واحد فقط، ما يدل على الدقة البالغة في إنشائه، كذلك يتخلل البرج عدة نوافذ مصممة كجزء من الجدار، والتي تسمح بمشاهدة الإطلالة الجميلة، خاصة عند بلوغ القمة، حيث توجد سلسلة من الجبال الشاهقة، بالإضافة إلى مجموعة من الألواح الحجرية العتيقة، المنحوتة منذ قرون على هيئة رجال ونساء.