رياضة

مهرج وقفص وأشياء أخرى.. الهاربون من “جحيم” كرة القدم

كرة القدم بيئة قاسية؛ نحن نتحدّث عن بيئة تدور حول صناعة ديفيد بيكهام القادم. في الواقع، واحد بالمئة من كُل 10 آلاف لاعب كرة قدم شاب، ينجح أخيرًا في أن يصبح لاعبا محترفًا. 

أندرو هيل، المحاضر بكلية العلوم الطبية الحيوية بجامعة ليدز الإنجليزية. 

كانت العبارة أعلاه خلاصة دراسة أجراها مجموعة من الباحثين بقيادة هيل، لمحاولة فهم العلاقة بين متطلبات لعب كرة القدم الاحترافية وبين الاحتراق النفسي والعاطفي للّاعبين الشباب في سن صغير، والتي شملت عينة من 167 لاعب شاب من 8 أكاديميات كروية كبيرة. 

حسب دكتور هيل، لا علاقة بين تعلُّق اللاعبين بكرة القدم وبين تأثيرها على صحتهم النفسية والعقلية، وفقا لعديد المحادثات التي أجراها فريقه البحثي مع اللاعبين المحترفين، فإظهار بعض أعراض القلق أو عدم الرضا أو حتى الاستياء من امتهان كرة القدم يتعلّق بالأساس بالاستثمار العاطفي الذي يضعه اللاعب داخل هذه اللعبة، والذي قد يقوده بالنهاية لأن يكرهها. 

بالتالي وتفاديًا لتبعات الاحتراف القاسية، قد يلجأ البعض لتعويض أنفسهم عن سنوات طويلة من الضغط عبر الانتقال لمهن أقل حدة واستنزاف لنفسياتهم. 

مارتن بنجستون وزوهايتز جوروتشاجا، كانا ضمن القلائل الذين قرروا أن يهربوا من كرة القدم، لسبب واضح؛ وهو الضغط الناتج عن لعب كرة القدم. وحتى لا تنخدع، لم يكن هذا أو ذاك قليل الموهبة، لكنهم فقط رفضوا أن يعاملوا كآلات أو حيوانات داخل سيرك كرة القدم العالمية. فما قصتهم؟ 

دموع المُهرج

تخيل هذا المشهد!

على خشبة مسرح الملكة فكتوريا بمدريد، يقف لاعب دولي سبق له وأن خاض أكثر من 50 مباراة بالدوري الممتاز، لكنّ لا لينشر خبراته الواسعة بعالم المستديرة، بل ليلقي النكات على الحضور. هذا اللاعب هو زوهيتز جوروتشاجا، المدافع الإسباني الذي سبق له وأن دافع عن ألوان فريق ريال سوسيداد الأسباني خلال الفترة ما بين 2001 و2004. وخلف هذا التحوُّل قصة لا تقل غرابةً عن مشاهدته وهو يحاول سحب ابتسامات مجموعة ممن يحضرون عروضه الترفيهية الساخرة. 

بعد اعتزاله بنحو 9 أعوام، خرج إلينا جوروتشاجا ليحكي قصته مع كرة القدم؛ كيف قاده الضغط الناتج عن اللعب لفريق كبير مثل ريال سوسيداد إلى المعاناة مع اضطرابات مثل الوسواس القهري، وكيف تأكّد أن الكوميديا هي سبيله للخروج من أزمته. 

كرة القدم
زوهيتز جوروتشاجا، لاعب ريال سوسيداد الأسبق.

في الواقع، كان زوهيتز أحد قلوب الدفاع الذين توقّع لهم الخبراء أن يظهروا بقوة بالدوري الإسباني مطلع الألفية الثالثة، خاصةً بعدما تألّق رفقة منتخبي إسبانيا للناشئين والشباب، قبيل أن تتحوَّل حياته تماما بمجرّد أن استدعاه مدرّب ريال سوسيدا، خافيير كليمنتي، لتمثيل الفريق الأول بالفريق الباسكي حين بلغ الـ19 من عمره فقط. 

كان بداية جوروتشاجا مع كرة القدم مثالية، ففي أول مباراة له بالدوري الإسباني الممتاز، تكفَّل بإيقاف جيمي فلويد هاسلبينك، نجم أتلتيكو مدريد الإسباني. آنذاك، عقد المدرب كليمنتي صفقة مع لاعبه الذي كان يتحسس خطواته الأولى كلاعب للفريق الأول. وكانت الصفقة عبارة عن.. لا تلعب كرة القدم، مقابل ألا تدع هاسلبينك يلعبها. 

صفقة رائعة، ربما أثارت إعجاب جوروتشاجا نفسه؛ أن يحرم مهاجمين مثل هاسلبينك، تامودو، راؤول جونزاليس وغيرهم من لعب كرة القدم، عبر مراقبة لصيقة، دون الحاجة أن يظهر موهبته بشكل حقيقي. لكن الأمور لم تظل على هذا النحو لاحقًا. 

في نفس المباراة الأولى، تعرّض زوهيتز للطرد، بعد إحدى التدخلات العنيفة على نجم أتليتيكو مدريد وهداف الدوري الإسباني. وهذه هي الحادثة التي بنى الشاب اليافع مسيرته عليها. 

يقول جوروتشاجا: 

بعد عام مثالي أول، لم أعد ذلك اللاعب الشاب المطالب بتقديم أقصى مجهوداته وحسب، بل أصبحت مطالبًا بأن لا أخطئ؛ لأنني لم أعد ناشئا يمكن أن يغفر له. 

 

مع مرور السنوات، قرر زوهيتز الهروب من لعب المباريات، تارة عبر ادعاء الإصابة، وأخرى بارتكابه أخطاء تؤدي لطرده؛ حتى يتثنى له الهروب من لعب المباريات، التي أصبحت تشكّل عائقًا نفسيًا له -حسب وصفه-. 

ويحكي اللاعب عن هذه الفترة قائلًا: 

أصبحت أفضل الجلوس على مقاعد البدلاء؛ لأنني أدركت أنني لست جيدًا كفاية للعب بالدوري الممتاز. حين تملّك الضغط مني، إدعيت الإصابات، كنت سعيدًا لقدرتي على خداع الجميع بذكاءٍ، كنت أركز جيدًا قبل اختيار القدم التي أعرج عليها قبل الخروج من الملعب. 

بعد انتهاء فترته مع سوسيداد عام 2003، فضّل جوروتشاجا أنّ يترك عالم الأضواء صوب أندية تلعب بالدرجات الأدنى. وقتئذٍ، شعر الشاب الذي كان لا يزال في أوج مسيرته الرياضية أنّه في حاجة لأن يجد لنفسه مجالًا آخرًا ليبرع فيه.

بدأ سريعا في كتابة بعض الأغاني، التي تضمنت قصصا ساخرة مقتبسة من مسيرته الكروية القصيرة، وبعد فترة قصيرة أدرك أن الجمهور أحَب هويته؛ لأنه لاعب كرة قدم يسخر من وضعه كلاعب كرة في الأساس. عند هذه اللحظة قرر أن يتحوَّل لكوميديان. 

يروي زوهيتز: 

الكوميديا أكثر من مجرّد وظيفة، عانيت مع بعض الاضطرابات النفسية حين كنت لاعبا محترفا، دفعت مقابلا لأطباء حتى يستمعوا لمعاناتي. لكن الآن، أتحدث عن معاناتي أمام العشرات من الناس دون حرج، وفي النهاية أتقاض. أجرًا عن ذلك. نعم، هذه هي القصة القديمة التي تحكي عن دموع المُهرج. 

قفص حديدي 

قبل نحو 20 عامًا، كان مارتن بنجتسون هو إبراهيموفيتش القادم، لكنه لم يصل أبدًا، حتى بعدما وصل لأكاديمية نادٍ كإنتر ميلان الإيطالي، الذي رُبما كان سببا في أن يتحوَّل من لاعب واعد لكاتبٍ يلعب كرة القدم من أجل الترفيه عن نفسه. فكيف حدث هذا التحوُّل الجذري؟ هذا ما يرويه مارتن بنفسه. 

على عكس جوروتشاجا، لم تدم مسيرة بنجتسون سوى لعدة سنوات قليلة، حيث اعتزل لعب الكرة تمامًا قبل أن يتم تصعيده للفريق الأول لنادي إنتر ميلان، بل أنّه كان على قاب قوسين أو أدنى من إنهاء حياته؛ لأنّه لم يتحمّل قسوة متطلبات الاحتراف في نادٍ كبير. 

يقول روني ساندال، الذي أخرج فيلمًا عن قصة حياة اللاعب السويدي: 

هنالك جانب خفي في حياة لاعبي كرة القدم الشباب لا يتم عرضه على الجمهور، حاولت أن أوضح في فيلم النمور ما يمُر به الشباب في هذه الفترة الحرجة مثل: الغُربة عن الوطن، القلق، البحث عن شريك حياة. الحياة ليست مجرد مباراة تنتهي بالفوز أو الخسارة. 

السردية الأشهر في كرة القدم تقول أنّ البقاء عادة ما يكون للأقوى، الأكثر قدرة على التحمُّل والتأقلُم مع متغيراتها ومصاعبها. ومع ذلك، يؤكد بنجتسون أن اختبار التجربة بنفسه كان له أثرًا جعل من كرة القدم التي ظنّ مدربوه بالسويد أنّها لا تنفصل عنه، مجرّد وظيفة تستنزفه نفسيًا. 

كرة القدم
مارتن بنجتسون، لاعب إنتر ميلان السابق.

في إيطاليا، توقّع الجميع مطلع الألفية الثالثة أن يكون بنجتسون خليفة لزلاتان إبراهيموفيتش من حيث الأثر؛ حيث كان لاعب وسط أنيق، قادر على تسيير اللعب بحكمة، بالرغم من صغر سنّه. وبعد فترة معايشة، تعاقد النادي الإيطالي مع الشاب اليافع، ليبدأ كل شيء بالانهيار. 

طبقا لبنجتسون، كانت اللغة عائقًا بينه وبين الاندماج في الحياة في إيطاليا، لكنّه كان يحاول أن يتخطى هذه المسألة عن طريق الكتابة، التي كانت بمنزلة هوايته الثانية. 

يقول بنجتسون: 

في إحدى المرّات، وبعد أن قام بعض لاعبي الأكاديمية بالتدخين -لم أكن منهم- عوقبنا جميعًا بالحبس في مقر التدريبات. لكن المهم، هو أنّ أحد المسؤولين قام بتمزيق الأوراق التي كنت أقوم بكتابة ما يجول برأسي عليها؛ بحجة أن لاعب كرة القدم يجب أن يصب كامل تركيزه على التدريب. 

حسب رأيه، يعتقد بنجتسون أن علاقته بكرة القدم انتهت عند هذه اللحظة؛ لأن الكتابة كانت آخر ملجأ له ذهب إليه بعدما أخَلّ نادي إنتر ميلان بشرط تعليمه االلغة الإيطالية. بالتالي أصبح وحيدًا، معزولًا، لا يمكنه نزع الأفكار السلبية من رأسه. 

يقول اللاعب: 

بعد العام الأول في البريمافيرا أصبت إصابة قوية، جعلتني غير قادر على التدريب فضلا عن المشاركة في المباريات، بالتالي فقدت وقتا طويلا من روتين يومي الذي طالما قضيته في التدريبات والمباريات. ومع ذلك، لم يُسمح لي بفعل أي شيءٍ آخر. بل طُلب مني فقط أن أكون صبورًا، أكثر قدرة على التحمُّل. 

في 21 سبتمبر 2004، كان مارتن قد ضاق ذرعًا، وقرر إنهاء حياته، وقطع شرايين يديه بشفرة معدنية. وقتئذ، استيقظ مسؤولو إنتر من سباتهم، وقرروا إرسال طبيب نفسي لفحص اللاعب. 

يحكي مارتن: 

بعد الحادثة، أرسلوا معالجًا إلى غرفتي، وكان أول ما قاله هو أنني أمتلك كل ما يتمناه شاب في سني، لماذا أقترف خطأ كهذا؟

وقتئذ، أدركت الطريقة التي ينظُر بها الجميع للاعبي كرة القدم، مجرّد حيوانات في سيرك، وهذا ما لم يكن مناسبًا لي. 

 

في أكتوبر 2004 اعتزل بنجتسون تمامًا لعب كرة القدم، وتفرّغ للعمل ككاتب بدوام كامل، إضافة لمشاركته بمحاضرات حول الصحة النفسية لصالح الاتحاد السويدي لكرة القدم. 

في النهاية، ربما يتم النظر لمارتن أو زوهيتز كشابين مدللين، لكن الحقيقة هي أنّه عند الحديث عن المعاناة النفسية لا يمكن التفرقة ما بين لاعب كرة قدم أو عامل نظافة، الجميع يتأثر. والحقيقة الأهَم: هي أنّ وصف أمثالهم بالغرباء ليس دقيقًا؛ فالغرباء هم الذين استطاعوا بشكلٍ ما التأقلم مع عالم قاسٍ لا يعترف بحق أي إنسانٍ بأن يعترف بمعاناته النفسية. 

 

المصادر: 

 

1- الضغط: كرة القدم والصحة العقلية

2- لاعب كرة القدم الإسباني الذي تحول لكوميديان

3- مارتن بنجتسون: موهبة السويد الذي قتل حلمه في انتر ميلان

4- لاعب إنتر ميلان الشاب الذي حاول الانتحار

5- هل تهتم كرة القدم بالصحة العقلية والنفسية للاعبين؟ 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى