في الحرب، الحقيقة هي الضحية الأولى.
اسخيليوس، الكاتب المسرحي الإغريقي.
في عالم يمتلك ولوجًا كاملًا للإنترنت، حيث تتدفَّق المعلومات كالسيل، لا يمكن أنّ ندعي أنّ حقيقة معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال تحتاج لتوضيح.
لكن حتى ولو أقَرّ العالم أجمع مأساوية المشاهد في قطاع غزة والضفة الغربية، لا تزال الرواية الأكثر شيوعًا في الإعلام الغربي هي حق الكيان المُحتل في الدفاع عن مواطنيه.
في الواقع، برعت إسرائيل منذ نشأتها في نحت رواية الطرف المُضطهد، وفي القرن الـ21 قامت برقمنة هذه الرواية، كي تواكب العالم الذي يستقي معلوماته من وسائل التواصل الاجتماعي ومنافذ الإعلام الغربية. ويكمن السر في الـ”هاسبارا”، فما قصة هذا المصطلح العبري؟
تحيُّز مفهوم
قبل أن نخبرك بقصة “هاسبارا” وتأثيرها على وجهة نظر الغرب حول الصراع العربي الإسرائيلي، تجدُر الإشارة إلى الواقع؛ وهو تحيُّز وسائل الإعلام الغربية للطرف المُحتَل بشكل واضح.
أثناء الحروب، حين تكون المعلومات المُضللة أكثر من غيرها، يكون دور الإعلام هو اختيار اللغة المناسبة لعرض الأحداث، تجنبًا لإثارة المشاعر. ويكون الحل هو اعتماد ما يُعرف أكاديميًا بـ”صحافة السلام”، حيث لا يختزل النزاع في طرفين، أحدهما فائز والثاني هو الخاسر.
طبقا لدراسة، أعدتها “مجموعة غلاسكو الإعلامية” عام 2011، تتبنَّى وسائل الإعلام الغربية موقفًا مؤيدًا للكيان المحتل، ويظهر ذلك في استخدام منفذ إعلامي مرموق مثل “بي بي سي” البريطانية لمفردات مُحددة أثناء معالجته للأحداث.
على سبيل المثال، وجدت الدراسة أن “بي بي سي” استخدمت مصطلحات مثل: الفظائع والقتل الوحشي والقتل بدم بارد لوصف مقتل الإسرائيليين، ودائمًا ما ربطت الإرهاب بالفلسطينيين.
وإذا ما قارنا ذلك بمعالجة “بي بي سي” للأحداث التي بدأت في أكتوبر 2023، نجد أن نفس المنفذ الإعلامي قد قام بوصف ضحايا قصف مستشفى المعمداني في غزّة، والذي راح ضحيته 500 مدنيًا على أقل تقدير، بضحايا هجوم، دون الإشارة إلى مرتكب هذه الجريمة.
في الواقع، هذه ليست المشكلة الرئيسية، لأنّ التحيُّز الغربي، خاصة من الجانب الرسمي، مفهوم لعدة أسباب، أهمها ما يُعرف باعتذار الغرب عن ضحايا الهولوكوست في أربعينيات القرن الماضي. لكن المشكلة الأساسية، هي لماذا يتعامل العالم في الوقت الحالي مع الكيان المُحتل وكأنّه الطرف الضعيف في صراعه مع الشعب الفلسطيني؟
“هاسبارا”.. بروباجاندا لطيفة
في السياسة، لا تُحسب الانتصارات بالنتائج العسكرية على الأرض، بل بوجهة النظر العامة عن النتائج، أو بالأحرى ما يُعرف بالسرد؛ الرواية التي تُشكِّل إدراك الجموع، وتضفي شرعية لبعض التصورات حول أي حدث، وتنزعها عن أخرى، وبالتالي، تتم تهيئة المُتلقي لقبول بعض المعلومات وتكذيب البعض الآخر.
كان السرد الذي يصب في مصلحة الكيان هو الشغل الشاغل لمسؤوليه منذ قيام هذه الدولة المزعومة، وهو ما تبلور حين أُنشئت وزارة “هاسبارا” عام 1974. و طبقًا للدكتور “يوناتان مندل”، المحاضر بقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون، برزت أهمية “هاسبارا”، التي تعني “التفسير” أو “الشرح” في لَيّ الحقائق بما يتماشى مع الرواية الإسرائيلية، خاصةً عند تورُّط الحكومة في صراعات دامية، تُعرِّضها لانتقادات دولية واسعة النطاق.
حسب المدون الإسرائيلي “نعوم شيزاف”، الهاسبارا هي التعبير المُلطَّف المُكافئ لبروباجندا الأنظمة البائدة، والتي تهدف إلى تحسين وبناء تصوُّرات إيجابية لسياسات الحكومة بما فيها الإجراءات السيئة التي تم اتخاذها في الماضي حول العالم ، كما تتضمَّن جهود لتشكيل صورة نمطية سيئة عن العرب والفلسطينيين خاصة.
لذلك، تستهدف الهاسبارا، التي لم تعد وزارة قائمة بذاتها، بل قسم داخل كل وزارة في الحكومة، النُخب السياسية الغربية وصناع الرأي والجمهور العادي، عن طريق التأثير على وسائل الإعلام والصحفيين والطلاب. والسؤال الآن: كيف يحدُث ذلك؟
إعادة تعريف
بعد مجزرة “صبرة وشاتيلا” عام 1982، والتي راح ضحيتها طبقا للتقارير الرسمية نحو 300 لاجئًا فلسطينيًا، وجدت دولة الاحتلال نفسها أمام أزمة دبلوماسية، حيث انتُقدت بشكل موّسع في الإعلام الغربي. وقتئذٍ، سارعت سلطات الاحتلال بعقد مؤتمر يهودي/ أمريكي عام 1983، دُعي إليه كبار مسؤولي الصحافة والأكاديميين من الولايات المتحدة الأمريكية لوضع استراتيجية إعادة بيع إسرائيل للعالم.
كانت الاستراتيجية قائمة على 4 محاور رئيسية وهي: أهمية إسرائيل لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، التعاطف مع الكيان المحتل كأُمة مُستضعفة، القيم الثقافية الإسرائيلية المشتركة مع الغرب وأخيرًا رغبة دولة الاحتلال في السلام.
مع الوقت، ضمنت هذه الاستراتيجية عدة مكاسب دبلوماسية مثل تحديد الطريقة التي يتم بها معالجة القضايا الخاصة بالكيان المحتل إعلاميًا في المستقبل، ونزع أي شرعية عن أي انتقادات توجَّه لحكومة الاحتلال، وأخيرًا تعطيل الجهود الرامية لتنظيم الفلسطينيين لأي تحالفات معادية.
حقيقةً، لا تقوم الجهات الرسمية الإسرائيلية وحدها بتطبيق مفهوم “الهاسبارا” بل هي نتاج لتعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والحلفاء. كيف؟
مثلًا، في عام 2008، قامت وزارة الخارجية الإسرائيلية بإرسال وفد غير رسمي من الناطقين باللغات الفرنسية، الإنجليزية والألمانية لأوروبا بهدف إجراء مقابلات مع وسائل إعلام محلية، أعضاء برلمان بهدف إرسال رسائل لا يستطيع الدبلوماسيون أرسالها، وكانت التعليمات محددة وهي عدم التطرُّق للسياسة، بل الالتزام بقَصّ الحكايات الشخصية عن التخوُّف من الحياة بجانب الفلسطينيين بسبب أعمال المقاومة وتأثيرها على عائلاتهم وحياتهم اليومية وأعمالهم.
هذه ليست مجرَّد استنتاجات، فقبل ذلك بعدة سنوات، استأجرت مؤسسة “مشروع إسرائيل”، وهي مؤسسة غير هادفة للربح مقرها واشنطن، ناشط جمهوري يدعى “فرانك لونتز” من أجل عمل دراسة مستفيضة لتحديد كيفية صياغة الرواية الإسرائيلية في الإعلام.
خرج “لونتز” عام 2009، بوثيقة (قاموس اللغة العالمي لمشروع إسرائيل)، أوضح من خلالها المفردات التي يجب أن يتم استخدامها في الإعلام الأوروبي والأمريكي للتأثير على الرأي العام. وفي كتابه المكوَّن من 18 فصلًا دعا إلى: تصميم إجابات مختلفة على الأسئلة المتعلقة بالقضية الفلسطينية بشكل يتماشى مع الجماهير المختلفة، التأكيد على أنّ الصراع أعقد مما يتصوره من لا يعيش في هذه البقعة من العالم، التأكيد على تصوير المدنيين الإسرائيليين كضحايا والأهم هو ربط المقاومة الفلسطينية بالإسلام السياسي.
حرب الجيل الجديد
نحن بحاجة إلى تعلم أسلوب أعدائنا، إنهم يعكسون النتائج. إنهم يلوموننا على احتلال الأراضي، على الرغم من أن هذه الأراضي كانت محتلة أصلا نتيجة عدوانهم. نحن بحاجة إلى إقناع العالم بأننا على حق. لديك ثلاث دقائق على التلفزيون الفرنسي، ماذا تقول؟
كانت هذه الفقرة، جزء من ندوة “بنيامين نتنياهو” مع مجموعة من طلاب بالصف الـ11 قبل إيفادهم في رحلة “هاسبارا” أو تفسير وشرح لموقف إسرائيل، قبل أن يصبح رئيسا للوزراء.
استهدفت اسرائيل في خضم مشروع “هاسبارا” الموسَّع فئة الشباب الذين يتم إرسالهم للجامعات الأجنبية في أوروبا وأمريكا، ومنحهم تدريبًا ممنهجًا على نشر الرواية الإسرائيلية. فمثلا، في عام 2002، أنتج اتحاد الطلبة اليهود في أوروبا كُتيب بعنوان “هاسبارا: الترويج لإسرائيل في الحرم الجامعي”، بغرض جلب تعاطف التأثير على رأي الشباب بالجامعات الأوروبية والأمريكية حول إسرائيل والصهيونية بشكل عام.
وكانت الفكرة الأساسية لهذا الكتيب هو حث هؤلاء الشباب على إبداء الانزعاج من أي انتقاد موجَّه لإسرائيل والإشارة إلى كونه “معاداة للسامية”. بالتالي، ودون تدخُّل إضافي، يظهر جيل جديد، لا يعرف الكثير عن هذه القضية، لديه حساسية شديدة عند الحديث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي داخل الحرم، تجنبًا لتهمة معاداة السامية. ما يعني تحييد فئة كبيرة جدًا من الشباب الأوروبي والأمريكي.
مع ذلك، لا يمكن الهروب من المقاطع التي تنتشر في العصر الحالي على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تظهر وحشية الكيان المُحتل، ولا يمكن السيطرة عليها كما حدث مع وسائل الإعلام.
تقول البروفيسور الهولندية “ميريام أوراغ”، المتخصصة في النشاط على الانترنت، أنّ الكيان المحتل دخل حاليًا فيما يعرف بـ”هاسبارا 2.0”. حيث لم يعد القمع ممكنًا لتحسين الصورة، بل على العكس، محاولة استغلال تدفق المعلومات للصالح الإسرائيلي.
أنشأت وزارة الشؤون الاستراتيجية والدبلوماسية العامة الإسرائيلية منصة باسم “4IL” وهي عبارة عن منصّة تضم بداخلها مسؤولين عن توجيه الشباب للتعليق على المحتوى المنشور على الانترنت بشكل مُكثَّف. إيجابًا إذا كان في صالح الكيان المحتل، وسلبا إذا ما كان ضدّه.
وفي 2013، أنشأ بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء آنذاك، وحدات سرية” في الجامعات الإسرائيلية للنشر على شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر نيابة عن إسرائيل ولكنها لا تعرف نفسها كممثلين رسميين للحكومة. وبحسب ما ورد فإن رئيس مدير كل وحدة يتلقى منحة دراسية كاملة من مكتب رئيس الوزراء.
لهذه الأسباب، ربما يبدو منطقيًا أن نشعُر وأن العالم لا يتعاطف مع فلسطين، لأن هذا الكيان لم يعد يكتفي فقط بتكميم الأفواه، بل يدفع ملايين الدولارات من أجل أن يضمن أن تطفو روايته دائمًا على السطح، حتى وولو كانت كاذبة.