ماريا أوكتيابرسكايا.. واحدة من ملايين فقدوا أحباءهم وذويهم في أتون الحرب العالمية الثانية المتقد (1939-1945)، ولكن ماريا ليست كأي أحد، ولم تستسلم عندما أتاها نبأ مقتل زوجها وأصرت على الانتقام، فماذا فعلت؟
النشأة والبداية
ولدت ماريا أوكتيابرسكايا في شبه جزيرة القرم في الـ6 من أغسطس عام 1905، لعائلة أوكرانية فقيرة ترعرعت فيها بين والديها وإخوتها الـ10، وبدأت العمل مبكرا في مصنع للمعلبات لمساعدة أهلها، وفي مرحلة ما عملت في إحدى الكبائن كعاملة هاتف.
قابلت ماريا ضابطا في الجيش الأحمر (الجيش السوفيتي) عام 1925، ونشأت بينهما قصة حب فتزوج الاثنان في نفس العام، ولشدة حبها له أصبحت ماريا مهتمة للغاية بسلوك زوجها، وانضمت إلى مجلس الزوجات العسكري وحصلت على تدريب كممرضة في الجيش، وبعد فترة وجيزة تعلمت كيفية استخدام الأسلحة والقيادة، وهو أمر نادر الحدوث بالنسبة للنساء في ذلك الوقت.
وعندما سئلت عن رغبتها غير العادية بالمقارنة مع أقرانها من النساء، أجابت: “زوجة الضابط ليست مجرد امرأة فخورة بزوجها؛ بل هي أيضا مسؤولة عن هذا اللقب”.
مقتل زوجها
مع فتح الجبهة الشرقة ودخول الاتحاد السوفيتي في الحرب الوطنية العظمى كما يسميها السوفيت عام 1941، تم إجلاؤها إلى سيبيريا حيث قضت العامين التاليين، واستغرق الأمر وقتا طويلا لتأتي الأخبار من جبهة القتال، ويصلها خبر وفاة زوجها في قتال ضد القوات النازية بالقرب من كييف، وبمجرد حصولها على الرسالة؛ كانت ماريا قد اتخذت قرارها وعرفت ما يجب عليها فعله.
مباشرة إلى ستالين
غضبت ماريا غضبا شديدا وكتبت رسالة إلى جوزيف ستالين القائد الأعلى للاتحاد السوفيتي مباشرة قالت فيها: “قتل زوجي أثناء تأدية واجبه دفاعا عن الوطن الأم، أريد الانتقام من الكلاب الفاشية التي قتلته وقتلت الكثير من أبناء الشعب السوفيتي، لقد أودعت جميع مدخراتي الشخصية -50،000 روبل- في البنك الوطني ووهبتها لبلدي من أجل صنع دبابة، أرجو منكم تسمية الدبابة Fighting Girlfriend (صديقة القتال)، وإرسالي إلى الخط الأمامي كسائقة للدبابة المذكورة”.
شعر ستالين بأنه ليس لديه خيار سوى القبول، ونصحته لجنة الدفاع عن الدولة بأن هذه الخطوة يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي؛ يرفع من معنويات القوات المنهكة والشعب اليائس، وهكذا تلقت ماريا خمسة أشهر من التدريب من أجل إتقان مهارات تشغيل الدبابة T-34.
مهارات غير مسبوقة
بعد التدريب تم نقل ماريا أوكتوبرسكايا البالغة من العمر 38 عاما إلى لواء دبابات الحرس في الـ26 من سبتمبر 1943، وسرعان ما شاركت في معركة سمولينسك الثانية، وعلى الرغم من أن طواقم الدبابات الأخرى نظروا إليها كعرض دعائي فقط، إلا أنها حصلت على فرصة لإثبات خطئهم.
خلال معركتها الأولى أظهرت ماريا بعض مهارات المناورة غير العادية، وساعدت في تحييد أوكار المدافع الرشاشة ومواقع المدفعية وإبطال مفعولها، قبل أن تتقدم داخل صفوف العدو وتتعرض دبابتها لأضرار بليغة، الأمر الذي تطلب خروجها من برج الدبابة تحت النيران الكثيفة، والنزول لإصلاح دبابتها بنفسها بعد أن قام رفاقها بتغطيتها بالنيران حتى تنتهي وتقفز إلى دبابتها مرة أخرى لتعاود القتال بشراسة أكبر، الأمر وهو ما تكرر مرة أخرى بعد شهر من هذه الواقعة في معارك مدينة نوفوي سيلو في منطقة فيتبسك، ما أدهش قادتها ورؤساءها فتمت ترقيتها لرتبة رقيب.
الثالثة ثابتة
لكن يبدو أن المثل العربي الشهير: “الثالثة ثابتة” كان حاضرا حينها، حيث تكرر الأمر بعد شهرين فقط وأصيبت دبابتها في إحدى المعارك العنيفة حول الدفاعات الألمانية، فحاولت إصلاحها للمرة الثالثة ونجحت في ذلك، قبل أن تصاب في رأسها بشظايا قذيفة مدفعية استهدفت موقعها فسقطت على الفور، وتم نقلها إلى مستشفى ميداني عسكري بالقرب من كييف، حيث أمضت شهرين في غيبوبة قبل أن تفارق الحياة في 15 مارس 1944.
لم تكن أفعال ماريا أوكتوبرسكايا عبثية ولم تذهب تضحياتها ووفاؤها لزوجها سدى، وتم إعلانها بطلة من أبطال الاتحاد السوفيتي بعد وفاتها؛ حيث ألهمت شجاعتها الآلاف من النساء للانضمام إلى القتال وتقديم مساهماتهن لخدمة بلادهن.