الشعر ديوان العرب ولسانهم الناطق، اهتم به العرب كثيرا واشتهروا به دون غيرهم من الأمم، فكم من قصيدة رفعت أقوما وخفضت آخرين، أو أبيات قتلت صاحبها، أو بيت شعر واحد غير مجرى التاريخ وأعاد رسم الخارطة في حقبة زمنية ما، وهذا ما سنعرضه في هذا المقال.
بيت شعر وعائلة البرامكة
البرامكة هم عائلة كبيرة ذات أصول مجوسية ترجع إلى جدهم برمك، والبرمك هو الذي يعمر بيت النور أي بيت النار المقدسة عند المجوس، وكان برمك من مجوس بلخ وكان عظيم القدر فيهم.
كان للبرامكة حضور قوي في الخلافة العباسية خاصة في عهد هارون الرشيد، إذ قويت شوكتهم وتغلغلوا داخل البيت العباسي وفي عمق دار الخلافة، فقد كان خالد بن برمك وزيرا لأبي العباس السفاح، وكان ابنه يحيى بن خالد مربيا لأمير المؤمنين هارون الرشيد ووزيرا له بعد توليه الحكم، وزوجته أما للرشيد من الرضاعة، وأصبح الفضل بن يحيى بن خالد أخا للرشيد من الرضاعة، كما اتخذ الرشيد من أخيه الأصغر جعفر بن يحيى نديما له وخليلا وولاه على خراسان والشام ومصر، وهذا يبين باختصار مدى سيطرة تلك الأسرة على مقاليد الأمور حينها، وتعاظم شأنها، وإحاطتها بالخليفة.
النكبة
تعاظم نفوذ البرامكة وبدأوا في استغلال مكانتهم داخل البيت العباسي وقربهم من الخليفة، فجمعوا الأموال ونهبوها دون حساب، وبالغوا في الإسراف والترف؛ فبنوا قصورا ذات أحجار من الذهب والفضة في كثير من المدن والولايات، وملأوا جيوبهم ودورهم من خزانة الدولة، وأثاروا فتنة ولاية العهد بين الأمين والمأمون، وكونوا جيشا قوامه 50,000 جندي من خراسان ولاؤهم المباشر للفضل بن يحيى، وغير ذلك من الأسباب.
بيد أن هارون الرشيد كان يتابع عن كثب ولا يحرك ساكنا حتى جاء اليوم الموعود، وأتت القشة التي قصمت ظهر البعير، والتي تمثلت في بيت من الشعر سمعه الرشيد من أحد الشعراء.
(إنما العاجز من لا يستبد)
يذكر ابن كثير في كتابه المعروف البداية والنهاية في الجزء العاشر، أن الرشيد في أحد الأيام كان قد عزم على شراء جارية بـ100,000 دينار، ولما طلب هارون من وزيره يحيى البرمكي أن يرسل له هذا المبلغ، بدأ في مماطلته وتأنيبه وتأخر عن إرسال المال له.
واتفق مع تلك الحادثة أن الرشيد كان في مجلس من مجالس السمر، وكان أحد المغنيين ينشده القصائد والأشعار، فأمر له الرشيد بـ30,000 دينار مكافأة، فلما ذهب الرجل ليتسلمها من بيت المال؛ رفض الوزير يحيى بن خالد مرة أخرى تسليمها له، وماطل أيضا كما فعل مع الجارية، فعاد المغني إلى الخليفة وأنشد بيتين من شعر عمر بن أبي ربيعة، يقول فيهما:
ليت هندا أنجزتنا ما تعـد ** وشفت أنفسنا مما تجد
واستبـــدت مـرة واحـدة ** إنما العاجز من لا يستبد
فأخذ الخليفة يكرر الشطر الأخير من بيت الشعر الثاني (إنما العاجز من لا يستبد) مرارا وتكرارا، وانتبه إلى حقيقة كونه عاجزا عن تدبير أموره، واقعا تحت سيطرة البرامكة، فاقدا سيطرته حتى على بيت مال الدولة.
وجاءت بعدها مباشرة نهاية البرامكة، حيث أرسل الخليفة إلى ولاته ببدء حملة التنكيل بالبرامكة، فقطع رؤوس بعضهم وكان على رأسهم أخوه جعفر بن يحيى، وزج بالبقية في السجون، وصادر أموالهم وضيعهم وألحقها ببيت مال المسلمين، وشرد بهم من خلفهم فلم تقم لهم قائمة بعدها.