في نهاية موسم العنب، كل عام، تبدأ في الخليل جنوب الضفة المحتلة، رحلة صناعة الدبس الخليلي، الذي بات موروثا تتوارثه الأجيال، ومصدر دخل مهم للكثير من العائلات، حيث يُعتبَر محصول العنب ثاني أكبر المواسم الزراعية في فلسطين بعد الزيتون، ويساهم العنب بـ12% من الإنتاج الزراعي في فلسطين، وتُقدَّر مساحة الأراضي المزروعة بالعنب حوالى 80 ألف دونم، وبنسبة إنتاج سنوية تصل إلى 80 ألف طن، وتُعتبَر محافظتا بيت لحم والخليل من أكبر المدن المنتجة للعنب.
جنوب فلسطين
ويمتاز عنب الجنوب الفلسطيني بحلاوة مذاقه وطيب طعمه وأنواعه المتعدّدة، وتبلغ نسبة السكر فيه 30%، ويقوم المئات من المزارعين الفلسطينيين بتحويل العنب إلى عصير يتم طهيه بطريقة مُحكمَة الإعداد للوصول إلى شراب الدبس، الذي تتزيَّن به موائدهم خلال فصل الشتاء، كما يتم صناعة الشدّة والمهلبيّة من الدبس أيضا.
وفي مثل هذا الوقت من كل عام، يبدأ موسم صناعة الدبس بالطريقة التقليدية التي توارثتها الأجيال اللاحقة عن الأجداد، فتسود أجواؤه وطقوسه إعادة لشريط ذكريات الماضي الجميل، وجمْع شمْل العائلة حول مواقد النار المُلتهبة لتحويل عصير العنب إلى دبس، ربما يُحيي ما أفسده الاحتلال في حياة شعب غير قابل للانكسار.
الدبس من الأطعمة الشعبية
يعد الدبس أحد الأطعمة الشعبية الفلسطينية التي تحضر منزليا وبطرق تقليدية عبر عصر وطبخ ثمرة العنب، وباتت هذه الأكلة غير متوفرة على نطاق واسع نتيجة تطور التصنيع الغذائي، لكن ما زال العديد من العائلات الفلسطينية وتحديدا في مدينة الخليل التي تشتهر بزراعة العنب، تصنع الدبس بطريقة ورثتها عن الأجداد.
طريقة عمل الدبس
قديما كانوا يقومون بغسل العنب ووضعه في كيس مصنوع من الخيش، ويضاف إليه نوع من أنواع الأتربة يُسمّى “حوّر” لأهميته في تكرير الدبس لاحقا، ثم يوضع في حوض مصنوع في الصخور أكثر ارتفاعا من الحوض الملاصق له، وتبدأ مياه العنب المعصور بفعل الضغط عليه بقوة الأيدي بالانسياب إلى الحوض الآخر، ومن ثم توضع على الكيس الحجارة الثقيلة لتصفية ما تبقّى من العنب الذي بداخله، أو أن يُعلَّق كيس الخيش على شجرة مُرتفعة، ويوضع تحته وعاء من أجل تصفيته.
وهكذا تنتهي المرحلة الأولى من صناعة الدبس، وهي استخراج العصير من العنب والتخلّص من اللّب، كما أن المرحلة الأولى متشابهة مع الطريقة الحديثة في عصر وتصفية العنب، فيما اختفت الأحواض المصنوعة في الصخور بفعل الزحف العمراني على حساب الأراضي الزراعية، بسبب الزيادة الكبيرة على عدد السكان.
وتُسمّى المرحلة الأولى في طهي الدبس على النار بـ “السلق”، وتتخللها إزالة الشوائب العائمة على سطحه، حيث تُسمّى “القوشة”، وبعد أول دورة غليان له يتم إبعاد النيران عنه، والإبقاء عليه في القدور لليوم الثاني، وهي عملية تستغرق من 3 إلى 4 ساعات على النار.
وفي اليوم التالي، تتم عمليات تصفية وزلّ الدبس المسلوق من جديد أكثر من مرة، عبر استخدام صهريج نظيف، لتبدأ بعدها مرحلة الطهي على النار تستمر أكثر من عشر ساعات، والمحافظة على قوّة النيران وإزالة “القوشة”، وتُكسِب النيران الدبس مذاقا مختلفا عن الدبس المطهي عبر الوسائل الصناعية.
وعن آلية معرفة نضوج الدبس يجب أن تكون كثافته كبيرة ولونه مائل إلى اللون الأسود، ويمكن فحصه من خلال وضع كمية قليلة منه في إناء نحاسي، وعمل خطوط في الإناء، فإذا لم يلتقِ الخطان فهذا مؤشّر على نُضجه، أو من خلال حمل نقطة منه عبر أحد الأظافر.
انقضت حوالى 37 ساعة متقطّعة من الوقت، من تنظيف العنب حتى مرحلة “التشريع”، والتشريع هي المرحلة الأخيرة في عملية صناعة الدبس، لتبريده وجعل لونه يميل للصفار، ويُترَك ليومين آخرين ومن ثم يوضع في أوعية خاصة، ويُحفَظ بدرجات حرارة مناسبة بعيدا عن أشعة الشمس.
الفوائد الصحية للدبس
ومن أهم الفوائد الصحية للدبس عِلاج فقر الدم ومدّ الجسم بالسعرات الحرارية والطاقة في فصل الشتاء، كونه يحتوي على كمية عالية من الكالسيوم، ويبلغ سعر الكيلوغرام الواحد من الدبس حوالى 8 دولارات، نتيجة ارتفاع سعر العنب والطريقة المُتّعبة والمُنهِكة في عملية إنتاجه.
وأصبح الدبس إحدى المأكولات الشعبية الموسمية غير المتوفرة دائما نظرا لاختلاف نمط الحياة واعتماد الناس على شراء الأغذية من المحال التجارية بدلا من تصنيعها، فالدبس بنكهته الأصلية لا يمكن إعداده بطرق صناعية.