هل صادفت يوما بعض الشخصيات المصابة بحب الذات وتقديرها أكثر من اللازم!
هل التقيت شخصا محدود الذكاء عديم الخبرة؛ ولكنه يقدس نفسه وينعتها بالفطنة والحكمة والذكاء المفرط!
هل جالست نوعا من الشخصيات التي تلقي نكاتا سخيفة ثم تتبعها ببعض الضحكات، وهي تعتقد في قرارة نفسها أنها تتمتع بروح الدعابة وخفة الظل؟
بالتأكيد ستكون الإجابة “نعم”.. الحقيقة أننا محاطون بعدد هائل من الشخصيات التي تصنع هالات حول نفسها من اللاشيء، شخصيات تعاني عدم الوعي وقلة الإدراك، وهو ما يقودها فيما بعد إلى تأثير دانينج كروجر والذي قد تكون أنت أيضا وقعت تحت تأثيره دون علمك، ولكي تحمي نفسك فعليك أولا معرفته وفهمه.
يعرف تأثير دانينج كروجر بأنه تحيز إدراكي يبالغ فيه الشخص في معرفته وتقدير ذاته وقدرته في مجال أو نطاق معين، وغالبا ما يكون هذا التحيز خاطئا لأنه ناتج عن نقص الوعي الذاتي، والذي يمنع الشخص من تقييم نفسه ومهاراته بدقة وبراعة.
تأثير دانينج كروجر
ظهر هذا المصطلح إلى العلن أول مرة عام 1999، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى العالم الأمريكي ديفد دانينج وتلميذه جوستن كروجر اللذين قررا القيام بعمل أبحاث حول معرفة الأشخاص لقدراتهم ومدى وعيهم لذاتهم.
قام العالمان المختصان باختبارات شخصية تصف رؤية الأشخاص لأنفسهم وقدراتهم الذاتية من حيث المنطق والقواعد والحس الفكاهي وروح الدعابة، وكانت النتيجة أن الأشخاص الذين كان أداؤهم سيئا جدا قيموا أنفسهم ومهاراتهم بتقييمات أعلى من المتوسط بل وأبعد بكثير عن مستوياتهم، على سبيل المثال بعض الأشخاص الذين سجلت مهاراتهم وقدراتهم في الشريحة 12% قيموا أنفسهم على أنها 62% كمتوسط، بعكس أصحاب الدرجات المرتفعة والذين قللوا من مهاراتهم وقدراتهم.
وقد أرجع الباحثون هذه النزعة النرجسية إلى قلة المعرفة أو عدم قدرة الفرد على تحليل أفكاره وأدائه، حيث تعاني الشخصيات التي لديها معرفة محدودة في مجال ما من مشاكل مزدوجة، إذ لا يتوصلون إلى استنتاجات خاطئة ويرتكبون الأخطاء فحسب، بل أيضا تؤدي قدرتهم المحدودة وعدم أهليتهم إلى العجز عن استيعاب وإدراك هذا النقص.
وهم الثقة
تعود القصة إلى عام 1995 في مدينة بيتسبرغ الأمريكية عندما قام رجل مسن بأغرب تصرف يمكن أن يقوم به شخص عاقل، حيث قام ماك آرثر بسرقة مصرفين في وضح النهار أمام الملأ دون ارتداء قناع على وجهه أو أي شكل من أشكال التنكر والتخفي، ولم يكتف بهذا فقط؛ بل أخذ يشير إلى كاميرات المراقبة ويبتسم قبل الخروج من كل مصرف.
الأمر المذهل أن ماك آرثر كان يتمتع بثقة هائلة في نفسه؛ بل كان يظن أنه سينجو بفعلته لا محالة، حتى إنه أصيب بحالة من الذهول وعدم التصديق عندما اعتقلته الشرطة في مساء ذلك اليوم، وعندما أطلعته الشرطة على كاميرات المراقبة المسجلة لم يكن منه سوى أن فغر فاه بدهشة وهو يتمتم بكلمات متقطعة: “ولكنني وضعت العصير”.
من المتعارف عليه أن عصير الليمون يتم استخدامه كحبر سري طالما أنه لم يتعرض لمصدر حرارة مباشر، واستنادا إلى هذه المعلومة قام ماك آرثر بطلاء وجهه بعصير الليمون ظنا منه أن تغطية بشرته بالعصير ستجعله غير مرئي لكاميرات المراقبة وبالتالي سيكون في مأمن تام، وهنا يكمن الخطأ الفادح الذي ارتكبه آرثر والذي أثار انتباه عالم النفس ديفد دانينج أثناء متابعته لتفاصيل الحادث مع تلميذه الألماني جاستن كروجر.
استنتج العالمان أن كل شخص تقريبا لديه رؤية خاصة إيجابية حول كفاءته ومهاراته في مختلف المجالات، الأمر الذي يدفع بعض الأشخاص إلى تقدير وتقييم كفاءتهم بنسبة أعلى بكثير مما هي عليه بالفعل وهو ما يسمى بوهم الثقة أو “تأثير دانينج كروجر” حاليا.
منحنى كروجر
هو عبارة عن رسم بياني صمم خصيصا لتوضيح مسيرة المعرفة والثقة، وهو يشرح التحيز المعرفي لدى بعض الأشخاص الذين يبالغون في تقدير كفاءاتهم خاصة أولئك الذين تكاد تكون خبرتهم قليلة أو معدومة، والغرض من هذا المنحنى هو فهم القصور لدى الأشخاص الذين لا يدركون افتقارهم إلى المعرفة والخبرة، لأن نقص المعرفة يؤدي إلى الجهل بعدم المعرفة والثقة الزائدة ستجعل من المستحيل إدراك ذلك النقص.
كما يوضح هذا الرسم البياني قدرة المنحنى على قياس الكفاءة والثقة المفرطة بالنفس، حيث يعرض المبتدئين الذين يمتلكون أدنى قدر من المعرفة عندما يكتشفون مهارات أو مصطلحات جديدة تمنحهم دفعات قوية وتعزز ثقتهم بأنفسهم أكثر من اللازم، وهو ما أطلق عليه كروجر “قمة الغباء”، ومع استمرار المتعلم في اكتساب المعرفة يبدأ منحنى الثقة في الانخفاض تدريجيا وهو ما يسمى بـ“وادي اليأس والقنوط” لأنه كلما زادت معرفة الأشخاص زاد إدراكهم لقلة معرفتهم، وهنا عند هذه المرحلة يبدأ المنحنى في الارتفاع مرة أخرى حيث تنتقل الثقة والكفاءة من الانحدار إلى قمة التنوير والتي يصبح فيها الأشخاص أكثر حكمة ووعيا وإدراكا لخبراتهم وكفاءاتهم.
الأسباب المؤدية إلى هذا السلوك
يعود هذا السلوك إلى رغبة الأشخاص في الحصول على تقدير كبير وحبهم للظهور بشكل أكثر ذكاء ممن حولهم، حتى إن البعض يفضلون التظاهر والادعاء بأنهم خارقون وماهرون بل ويستطيعون المخاطرة والمجازفة فيما يفوق قدراتهم بمراحل، مثل أن يقوم شخص رياضي بفعل حركة عنيفة دون التفكير في عواقبها الوخيمة والتي قد تؤدي إلى إصابته، حيث إنه يطغى عليه في هذه اللحظة شعوره المفرط بالثقة في النفس والذي يحدث لديه تضاربا بين مهاراته الشخصية وإدراكه وفهمه لتلك المهارات.
لست في معزل!
في مرحلة ما من حياتك لا بد أنك قابلت شخصا ما يتمتع بالفعل بالمهارة والخبرة في مجال معين، إلا أن نرجسيته تدفعه -خطأ- إلى الظن أن تلك المهارة والخبرة قابلة للنقل إلى مجالات أخرى ليس على دراية بها؛ بل ويقحم نفسه فيها دون السعي إلى التعلم أو اكتساب الخبرة التي تؤهله لذلك.
حسنا.. أنت تدرك الآن أننا لا نستطيع أن نختص الأشخاص محدودي الذكاء والقدرات فقط بهذا السلوك، فحتى الأذكياء وأصحاب الكفاءة والمهارة والخبرة يمكن أن يصابوا بتأثير دانينج كروجر، حيث إن امتلاك الذكاء من عدمه ليس له علاقة بتطوير الذات وتعلم مهارة معينة.
واجه نفسك
هل وجهت لك بعض الانتقادات من أشخاص مختلفين وقمت بتجاهلهم وتجاهل انتقاداتهم؟
هل سبق أن سمعت أحدهم ينعتك بصفة سيئة وبادرت بالهجوم والدفاع عن نفسك دون تفكير؟
هل تعترف بأخطائك؟
هل تتقبل فكرة أنك لست على صواب دائما؟
هل ترى عيوبك بوضوح وتسعى لإصلاحها؟
إذا كانت الثلاث إجابات الأخيرة “لا” فأنت بالفعل تقع تحت تأثير دانينج كروجر، وإذا كانت الإجابة “نعم” فهذا لا ينفي أنك قد تصبح فريسة لهذا التأثير في يوم ما، ولذا عليك اتباع بعض الخطوات التي ستمكنك من التخلص من هذا التأثير وتساعدك في تجنب الوقوع تحت طائلته.
أعط الخبز لخبازه
أولى هذه الخطوات ألا تتظاهر بمعرفة شيء لا تعرفه، تأكد أن قراءتك مقالا واحدا عن أحد الأمراض لا تعني أبدا قدرتك على التحدث عنه أمام الناس كأنك طبيب أو مختص، باختصار “أعط الخبز لخبازه”.
عليك أيضا أن تتخلص من دفاعك المستمر عن نفسك، وتقبلك الأعمى لسيئاتك والانصياع لحب ذاتك وتقديرها أكثر من اللازم، الأمر الذي يدفعك بالتبعية إلى التغاضي عن عيوبها؛ بل عليك أن تصارح نفسك كل يوم بحقيقة أخطائك وسلوكك السيئ.
كذلك عليك أن تبادر بسؤال دائرة معارفك من الأقارب والأصدقاء الصادقين حول هذه العيوب والاستعانة بهم والأخذ بمشورتهم وتقبل نقدهم البناء، والذي سينمي لديك رغبة التعلم وتطوير الذات وسيدفعك أيضا إلى تغطية نقاط ضعفك، ويمنحك القدرة على التركيز والإدراك بشكل أعمق وأوضح.