قد تعتبرها خطة جنونية خيالية، وقد تعتبرها إحدى القصص الطريفة، وربما تراها إنجازا عظيما لشخص عبقري بذل أقصى جهده للرفع من اقتصاد دولته، ولكن الشيء المؤكد أنها واحدة من أغرب الخطط في القرن الـ17.
أوليفر كرومويل
يعتبر القائد العسكري السياسي أوليفر كرومويل إحدى أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ بريطانيا، خاصة بعد الحرب الأهلية الإنجليزية وإعدام الملك تشارلز الأول، حيث نصب نفسه اللورد الحامي لرابطة الشعوب البريطانية المعروفة بدول الكومنولث، كذلك إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا، وهو الأمر الذي لا يزال يعتبره المؤرخون موضع نقاش كبير.
جون ويلكينز
ولكن كرومويل ليس آخر أفراد عائلته إثارة للجدل إذ اعتبر المؤرخون أيضا صهره جون ويلكنز من أكثر الشخصيات المثيرة حيث اتسمت القصص المرتبطة به دوما بأنها جنونية غير متوقعة، ومن أبرزها خطة القرن الـ17 الأغرب والتي كان هدفها الصعود إلى القمر للتجارة مع الفضائيين.
كان جون ويلكنز عالما مشهورا، قسا مبجلا، مؤلفا وفيلسوفا، كذلك كان أحد الأعضاء المؤسسين للجمعية الملكية وهي أقدم جمعية علمية وطنية في العالم، كما أنه من القلائل الذين حرصوا على التعلم قدر الإمكان في تلك الفترة، حيث التحق بجامعة أكسفورد وكامبريدج أيضا، وأسس حملة لتوحيد التقدم العلمي والدين، وليس هذا فقط بل إنه أيضا أحد الأفراد الذين فتحوا “علبة الديدان” وهو مصطلح غربي قديم يستخدم كناية عن الأشخاص الذين يفتحون الأبواب على مصراعيها أمام المخاطر، وربما أمام الأعداء، وهو ما فعله ويلكنز تماما.
أغرب الخطط في القرن الـ17
أقدم ويلكنز على خطوة جنونية غير متوقعة، بناء على اعتقاده التام بأن الكثير من السكان والكائنات الفضائية يعيشون على سطح القمر والكواكب المحيطة به، وقد كان طموحه في ذلك الوقت أن يصنع آلة طيران ليستطيع الوصول إليهم، بل إنه كان يطمح إلى أكثر من ذلك بكثير وهو إقامة مشاريع تجارية معهم، الأمر الذي سيساهم في ازدهار بريطانيا وتقدمها والرفع من اقتصادها فيما بعد.
فكرة طفولية
مما لا شك فيه أن مفهوم السفر إلى الفضاء قبل 400 عام كان مجرد فكرة طفولية من وجهة نظر بريطانيا، ولأن ويلكينز كان دائما ينظر إلى نصف الكوب الممتلئ فقد قرر أن يخالف وجهة النظر السائدة، حيث إنه كان يرى أن تلك الحقبة شهدت إنجازات لا تصدق من الاكتشافات العلمية ومعرفة البشرية بعالم الفضاء، وهو الأمر الذي تحدث عنه بإسهاب في كتابه “اكتشاف عالم القمر” 1638.
علم الجميع بخطة القرن الـ17 الذي عزم ويلكينز على تنفيذها، ومن هنا بدأت الأسئلة تنهال فوق رأسه بين عدم تصديق وتوتر وأصابع أشارت إليه بالجنون، وكان من أهم الأسئلة التي وجهت إليه: كيف للفكرة أن تتحقق من الأساس؟ وكيف سيتمكن مساعدوه من السفر إلى تلك الكواكب، والتنفس في حيز الفضاء؟
عقبات يمكن تجاوزها!
ولكن ويلكينز الحكيم لم يكن يرى أن هذه الأمور تمثل معضلة ولذلك لم يجد صعوبة في الإجابة، بل إنه أجاب بطريقة بديهية قائلا: “سوف يعتاد المسافرون في الفضاء على الأمر ويألفون الهواء النقي في السماء، ويتنفسون كما تتنفس المخلوقات الأخرى التي تعيش بين القمر والكواكب الأخرى، المشكلة التي ستواجهنا فقط هي وجود لغم أرضي صغير، ولكننا نستطيع أن نتفاداه ونتحرك بخفة من فوقه أثناء الرحلة”.
أما عن كيفية الطيران، فكان يرى أن البشرية في ذلك الوقت قد وصلت إلى مرحلة من التطور تؤهلها إلى خوض التجربة، رغم افتقارها إلى وسائل النقل التقليدية كالسيارات والطائرات، وقد أجابهم بأنه أنه سيعتمد على آلة طيران من صنعه، وجلّ ما يحتاجه هو مخلوق سماوي يهبط إليه ويتولى مهمة الإقلاع بهذه الآلة.
كما عرض حلا آخر وهو استخدام المسافرين للعربات المجنحة والتي من المفترض أنها ستحررهم من الجاذبية الأرضية وتجعلهم في معزل عنها، كما لو كانوا يعارضون قوة المغناطيس تماما، وهو الأمر الذي سيمكنهم من الطيران إلى سطح القمر بمنتهى البساطة، ولقاء الكائنات الفضائية التي تعيش هناك.
هل نجح بالفعل؟
كان ويلكينز ناظرا لجامعة أوكسفورد في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي يسمح له بالتجول داخل الجامعة ويمكنه من الدخول إلى حديقة المخترعين الواسعة وقتما شاء، إذ تحتوي على أجهزة حديثة مثل جهاز صنع قوس قزح، كما تحتوي على تمثال ناطق، وأيضا خلايا نحل زجاجية يمكن من خلالها رؤية مستعمرات النحل وهي تعمل بهمة لتنتج العسل.
هكذا بدأ ويلكينز وزميله الفيلسوف روبرت هوك العمل على نماذج أولية من تصميمهم لآلات طيران مختلفة، الأمر الذي استدعى العمل ليلا ونهارا لأيام متصلة، ولكن السؤال الذي طرأ على أذهان الجميع مترقبين إجابته بفارغ الصبر “هل نجحا بهذه الإمكانيات البسيطة في صنع آلة طيران بالفعل؟”
أنت تعرف الإجابة بالطبع، فلا داعي لذكر أن الفشل قد كلل جهودهما التي بذلا ما في وسعهما لتحقيقها، وهو الأمر المتوقع الذي لم يعترف به ويلكنز بسهولة، إلا بعد قيام الفيلسوف روبرت هوك وروبرت بويل بالعديد من الدراسات التي أظهرا من خلالها أن سطح القمر خاوٍ تماما، بالإضافة إلى أنهم لم يتوصلوا بعد إلى القدر الذي يؤهلهم للتعمق في فهم قوة الجاذبية والقدرة على التغلب عليها، وهو ما جعل ويلكنز يسلم أخيرا بأن السفر للقاء الفضائيين لم يكن ممكنا في ذلك التوقيت، مما يعني أن خطة القرن الـ17 قد فشلت بالفعل.
تجربة تستحق التقدير
وطأت البشرية سطح القمر أخيرا عام 1969، وعلى الرغم من خطة ويلكنز الغريبة وأفكاره الجنونية التي قد يعتبرها البعض طريفة أيضا، إلا أن المؤرخين أشادوا به، وبعقله اللامع الذي مكنه من الإصرار على خوض تجربة كانت محاطة بالفشل من جميع الاتجاهات، وهي التجربة التي اعتبروها بمثابة نجم ساطع شق طريقه في السماء ليمنحنا فرصة السفر عبر الفضاء، الذي لم نكن لنتعرف عليه أبدا لولا وجوده والعلماء الفلاسفة أمثاله.