كانت النتيجة تُشير إلى تقدُّم ريال مدريد الإسباني بهدفين مقابل لا شيء أمام مانشيستر يونايتد الإنجليزي بلقاء الإياب الذي أقيم في حضرة حوالي 60 ألف متفرّج على مسرح الأحلام، ما يعني أنها مسألة وقت وتنتهي رحلة الشياطين الحمر عند هذه النقطة، بعدما انتهى لقاء البيرنابيو بالتعادل السلبي.
بدا أن السير أليكس فيرجسون، المدير الفني لليونايتد قد ارتضى بعدم الدفاع عن لقبه الذي انتزعه من فم عملاق بافاريا قبل أقل من عام واحد. بينما ظل فيسينتي ديل بوسكي يترقّب ما سوف تؤول إليه الأمور بعدما وصلت كرة ميتة للأمير ريدوندو على طرف الملعب الأيسر، لحظات قبل أن يعُم مسرح الأحلام الصمت بحلول الدقيقة الـ52 من عمر المباراة، حين أذهل فيرناندو الحضور بعدما مرر كرة بكعبه من بين أقدام النرويجي هينينغ بيرغ بالقرب من خط المرمى الجانبي، صانعًا الهدف الثالث لزميله راؤول جونزاليس.
“كانت تلك لعبة العام من دون شك، لم يفاجئني فيرناندو بتنفيذه لهذه الحركة البهلوانية، لكنني قد صدمت بأنها خرجت بهذه النظافة”.
-إيفان كامبو، لاعب ريال مدريد.
توقّف الجميع عن الهمهمات عند هذه اللحظة تحديدًا، لم يهتم الحضور لهوية من مرر الكرة التي سكنت الشباك فريقهم، كما لم يتلق راؤول أي ثناء يذكر بعدما وضع الكرة داخل مرمى فان دير جاو، بل إن الأنظار جميعها صوبت تجاه الرقم «6»، ذلك اللاعب الذي احتل وسط ملعب اليونايتد المدجج بالنجوم طولا وعرضا، بشكل لم يُر له مثيل من قبل.
Happy REDONDO Backheel Day 🎉 pic.twitter.com/55wkHm1Z08
— My Greatest 11 (@MyGreatest11) April 19, 2020
.
ربما لم تنل مسيرة الأمير فيرناندو التقدير الذي تستحقه، لأنه كان متطايرًا، حسب تعبير “آمي لاورانس”، محررة الغارديان البريطانية، لكن مباراة ربع نهائي الأبطال، كانت بمثابة بطاقة تعريفه للجمهور، الذي حتى وإن قد قادته الظروف لنسيانه بعد ذلك، فغالبًا لن ينسى مشهد بيرغ وهو ملقى على الأرض بعدما عبرت الكرة من بين أقدامه.
فيرناندو العادي
يؤسفنا أن نخبرك بأنه لا وجود لقصة ملهمة، لا أقدام عارية ولا معاناة، لكن هنالك موهبة فذةً، وحماية من فيرناندو الأب، الذي قرر أن يدفع نجله إلى التعلّق بالكرة، تمامًا كما فعل هو، حين كان متوسط ميدان قليل الجودة، ثم مشجعًا متعصبا لإندبينديتي.
من حديقة المنزل بـ”أدروجوي” الواقعة ببيونيس آيريس الأرجنتينية، إلى منافسات الصغار بالحي، لم يكن فيرناندو يُفرّق ما بين الخصوم وشقيقه ليو، فقد كان دائمًا يسعى بأن يكون الأفضل بينهم جميعًا. ولأن لكل القصص الملحمية منعرجا رئيسيا، فقد كان أوسكار ريفوخوس، كشّاف أرجنتينيوس جونيورز هو بطل القصة الأول، حينما التقطت أعينه فيرناندو بعمر الـ11 متوسلا لأسرته أن تدعه يذهب إلى حيث تكّون أرماندو مارادونا وخوسيه بيكرمان، إلى أرجنتينيوس جونيورز.
طبقًا لمدربه فيرناندو كورنيخو، كان ريدوندو موهوبا بالفطرة، فمنذ البدايات كان ربما اللاعب الوحيد الذي مزج كل الخواص التي يمكن أن يمتلكها لاعب الوسط المدافع، على عكس الشائع، امتلك ريدوندو الخفة مع الصلابة، القوة بجانب الإبداع، وربما كان ذلك أصعب من أن يتخيله الجميع، إلا أنه لم يُخف استياءه من كون الصغير يشعر بأنه مميز بالفعل، فقد كان مدمنًا للـ”Gambetta”، وهي مراوغة أرجنتينية المنشأ، يقوم من خلالها اللاعب بخداع خصمه بجسده فقط دون لمس الكرة.
بين عامي 1985 و1990، كان فيرناندو قد مثّل “El Bicho” في 65 مباراة للفريق الأول، كما تخلل تلك الفترة مشاركة صاحب الـ16 عامًا في فوز منتخب التانجو على نظيره البرازيلي في نهائي أمم أمريكا الجنوبية التي أقيمت على ملعب خوسيه أميلفيتاني أمام 40 ألفا من الحضور، في ذلك النهائي لم يكُن أفضل من زميله هوجو -شقيق دييجو مارادونا- بل كان الأفضل على الإطلاق داخل أمريكا الجنوبية.
كيف عبرنا المحيط؟
لدينا بطل ثانٍ بقصة فيرناندو، كان خورخي سولاري قد تابع ما ينثره من وصل لعامه الـ21 من سحر داخل الأرجنتين، فما كان له إلا أن يستغل ثغرة نتجت عن خطأ إداري بعقد اللاعب مع فريقه المحلي ليستقطبه إلى زمرة اللاعبين الذين استقدمهم تينريفي الإسباني بغية تشكيل فريق قوي.
لم تتوّج محاولة سولاري في الدمج ما بين مواهب شابّة كريدوندو وألبرت فيرير مع خبرة تاتا مارتينو بالنجاح، فقد انتهى موسم الفريق بمركز متوسط بجدول الترتيب، إلا أن ما ظهر جليًا كان ثقة ريدوندو في نفسه، فقد قدّم تعريفًا مبسطًا لمضمون مهام اللاعب رقم 5، الذي يطارد المساحات، دون أن يفقد لمسته الجميلة للكرة.
“إذا كان يمكنني أن أقول شيئا عن ريدوندو، فهو لاعب من قلة يمكنهم أن يفعلوا بأقدامهم ما يفكرون به. ريدوندو كان اللاعب الذي طالما حلمت بأن امتلكه في فريقي”.
-خورخي فالدانو، مدرب تينريفي الإسباني الأسبق.
لم تأت كلمات فالدانو كتملق لنجم الفريق الذي ساعده بأول مهمة تدريبية تسند إليه عقب خلافته لسولاري، بل إنها الحقيقة التي دفعته لاستقطابه فور استلامه وظيفة الإشراف على فريق ريال مدريد موسم 94، بعدما قدما سويًا فترة رائعة بالفريق الصغير -تينريفي- تكللت بوصول الفريق إلى المنافسات الأوروبية. لذا يمكننا القول إن فالدانو كان ثالث أبطال حكاية الأرجنتيني.
فيرناندو المتمرد
كان ريدوندو يمتلك كل المقوّمات التي تجعله لاعبًا لريال مدريد، بل أحد قادته المؤثرين، فقد كان يحمل الأسلوب الملكي الواثق، الشخصية القوية، والرؤية الثاقبة، ما جعل دخوله إلى قلوب روّاد البيرنابيو مسألة وقت. لكن كل هذه العوامل حتى وإن كانت أسبابًا حقيقية في تألقه المستمر وتحقيقه للقب دوري الأبطال الذي غاب عن الفريق لأكثر من 3 عقود، إلا أنها ربما قادته إلى مصير مغاير عن الذي توقعه.
كان ريدوندو قد أصبح لاعبا لمنتخب الأرجنتين الأول، الذي قد استقدم اتحاده لاعبه التاريخي السابق دانييل باساريلا ليدير مرحلة ما بعد دييجو أرماندو مارادونا. وقتئذٍ أراد المدرب أن يفرض حالة من الانضباط على معسكرات بلاد الفضّة، حيث أرغم اللاعبين على قص شعرهم، وعدم ارتداء حلقان الأذن، الأمر الذي وصل إلى استبعاده من اعتبرهم “تفاحا فاسدا” مثل ريدوندو وباتيستوتا الذي تراجع أخيرًا وقام بتغيير قصّة شعره لينضم أخيرًا لكتيبة الأرجنتين المستدعاة لكأس العالم 1998. أما عن فيرناندو، فقد كان عنيدًا، حتى مع علمه بأنه قد يندم على قراره بعد ذلك بـ10 أعوام، إلا أنه فضّل أن يشاهد كأس العالم من على أريكته بدلا من أن يساوم على ما يراه ضمن خصوصيات حياته.
بالعودة إلى العاصمة الإسبانية مجددًا، وتحديدًا في صيف 2000، كانت مدريد على صفيح ساخن استعدادًا لانتخابات رئاسة النادي الملكي، التي يخوضها الرئيس لورينزو سانز، المثقل كاهله بالديون، ضد الصاعد فلورينتينو بيريز، الذي تركزت حملته الانتخابية على وعد بضم نجم برشلونة وقائده لويس فيجو إذا ما نجح. بنهاية المطاف، فاز بيريز بالانتخابات، كما أتم وعده وجلب فيجو معه، لكنه كان قد قرر بالفعل إقصاء كل معارضيه، وعلى رأسهم فيرناندو ريدوندو، الذي أعلن صراحةً دعمه لسانز بالانتخابات.
“تم الاتفاق بين ريال مدريد وميلان على انتقال ريدوندو وفقًا لرغبة اللاعب”
-بيان ريال مدريد بخصوص انتقال ريدوندو إلى ميلان.
بنفس الصدد، خرج ريدوندو للإعلام معربا عن انتمائه التام لمدريد، مصرحًا في رغبته في البقاء حتى نهاية مسيرته، كما أشار إلى أن كل ما يتردد بوسائل الأعلام حول رغبته في خوض تجربة جديدة بميلان الإيطالي ما هو إلا لعبة تنسجها الإدارة من أجل التخلُّص منه، خاصةً وأنه قد وصل لعامه الـ31، وهذا ما نفاه اللاعب لاحقًا.
آخر الأبطال.. الحظ العثر
ربما لم يتمكّن فيرناندو ريدوندو من إدارة الأمور خارج الملعب بشكل مثالي كما المتعارف، ربما لأنه ظنّ بأن موهبته قد تقيه أي مشكلات حقيقية، بيد أن الحقيقة هي العكس تمامًا، فقد كانت مسيرة فيرناندو صاحب الحضور الطاغي على أرض الملعب دائمًا تواجه المشاكل خارجه، حينًا بسبب مظهره الذي لا يوحي بالصلابة كما يريدون، وآخر لأنه لم يستطع أن يخفي تعلقه بالرئيس الذي جلبه للعاصمة الإسبانية.
في إيطاليا، لم يسلم فيرناندو من آخر الحقائق، فحتى وإن كان قادرًا على تدارك فكرة إقصائه من مدريد بشكل مزرٍ، فكيف له أن يتفادى السقوط أثناء التدريبات ليظل حبيسًا لآلام ركبته التي توالى على إلحاق الضرر بها عدد من الأطباء طوال 29 شهرًا.
يقول فيرناندو عن هذه الفترة: “قد تم حقن ركبتي بالعقاقير كثيرًا لكن دون جدوى، لا يمكنني أن ألوم أي شخص بعينه، لكنني فقط سئمت سؤال كل من يرى وجهي حول موعد عودتي للملاعب”.
حقيقةً كان فيرناندو متسقًا مع ذاته، فحين شعُر بأنه لا يمكنه اللعب لميلان، ذهب وأخبر مسؤوليه بأنه يرغب في ألّا يتقاضى راتبه الذي بلغ حوالي 2.5 مليون يورو، لأنه من غير المنطقي وفقًا لرؤيته أن يتقاضى أموالا دون أن يقدم أي شيء للفريق. ليعتزل اللعب تمامًا عام 2004 بعد فشله في استعادة مستواه.
كان فيرناندو ريدوندو إحدى حكايات كرة القدم الجميلة التي لم تكتمل، كان الثورة التي لم تحدث مطلقًا، أو كان لربما الإنسان العادي وسط من يلقبون بالمحترفين، بدايةً من مداعبة الكرة رفقة ليو، مرورًا بثناء فالدانو وسخط باساريلا، ثم سقطة هينين بيرج بمسرح الأحلام، وصولا إلى معاداة بيريز وآلام ركبته، كان ريدوندو تجسيدًا حرفيًا للأمير، لكن دون عائلة مالكة حقيقية لتدافع عنه.