قدّم أرون جوردون، الكاتب بموقع “Vice”، أحد أكثر الموضوعات إثارة للجدل، والذي جاء بعنوان “لماذا يعتبر التحليل التكتيكي لكرة القدم غباءً؟”، فحسب رأيه، كل المنتمين لكرة القدم بدايةً من المدربين ووصولا للمشجعين العاديين، يولون اهتمامًا مبالغا للتكتيك والتحليل، بينما يرى هو، بأن هذا الاهتمام يبدو أكثر الأشياء سذاجةً، لأنه يقتُل المعنى الحقيقي لكرة القدم التي تهدُف للمتعة.
حاول جوردون خلال مقاله أن يستشهد بإحدى أكبر العمليات تنظيمًا في تاريخ البشرية، وهي إنزال نورماندي خلال الحرب العالمية الثانية، حين عطّلت الرياح -وحدها- قوّات الولايات المتحدة وبريطانيا عن تحرير هذه النقطة من قبضة هتلر، لذا أكد مرّة أخرى، أن الحظ وحده هو ما أنقذ القوات التي وجدت نفسها أمام نيران الألمان، وليس التخطيط الجيد.
لهذا، لا يمكن أن نفترض بأن الاستعداد لحرب، يمكن أن يقارن بأي شكل بالاستعداد لمباراة كرة قدم، إذن فبشكل ما، مهما بدت خطتك محكمة، ربما تنهار أمام الحظ، ذلك العنصُر المجهول، الذي لا يمكننا ضمانه.
عن الحظ الذي يأتي للمجتهدين
بغض النظر عن توافقنا مع طرح جوردون من عدمه، علينا أن نطرح سؤالا بديهيا.. ما هو الحظ؟ لغويًا، الحظ هو النجاح أو الفشل في تحقيق الهدف المنشود صدفةً دون تخطيط مسبق.
هنا يمكننا الطعن فيما سرده جوردون بأكمله، لأن بطبيعة الحال، مدربي ولاعبي كرة القدم يقضون مئات الساعات خلف الكواليس لترتيب وتوقُّع ما يمكن أن يواجهونه أثناء المباريات، لذلك لا يمكن بأي شكل من الأشكال، أن ننعتهم بالأغبياء لمجرد أنهم لم يصلوا إلى هدفهم المنشود، كذلك لا يمكننا وصف المشجعين من خلفهم بنفس الصفة، لأنهم على أقل تقدير يحاولون الوصول إلى الحقيقة الكامنة وراء لوحة النتيجة.
على الجهة المقابلة، قدّم “أيان جراهام”، مدير قسم البيانات بليفربول الإنجليزي، طرحا ما لا يدع مجالا للشك، أن التحليل التكتيكي والإحصائي هو أحد أهم إنجازات البشرية المتعلقة بكرة القدم بالعصر الحديث، فقد قدمّت تحليلاته لفريق بوروسيا دورتموند أثناء تولي يورجن كلوب تدريبه عام 2015، ما لم يظهره جدول ترتيب الدوري الألماني الممتاز.
كان دورتموند يعاني من سوء توفيق غريب، وضع فريقه بالمركز السابع، إلا أن تحليلات جراهام المعقدة أظهرت بأن كلوب ولاعبيه قد قاموا بعملهم على أكمل وجه، وربما كان يفترض بأن يصلوا للمركز الثاني وليس السابع، لولا الحظ، لهذا رأي جراهام بأن الألماني هو الأفضل لتولي مشروع ليفربول، والذي توج نهايةً بلقبي البريمييرليغ ودوري أبطال أوروبا عقب 3 أعوام فقط من التعاقد معه.
عن الحظ الأكثر تأثيرًا
كرة القدم في العموم لعبة تتحكم عوامل عدّة في نتائجها، أهمها هو الحظ فعلا، فطبقًا لدراسة أكاديمية، متوسط عدد الأهداف التي يتم تسجيلها بالمباراة الواحدة هو 2.77، بينما تنتهي أغلب مباريات كرة القدم بنتيجة 1-1 أو 1-0، بالتالي فالأحداث الأكثر أهمية بالمباراة -تسجيل الأهداف- لا تستغرق سوى من 2% إلى 3% من عمر المباراة، على عكس رياضات أخرى ككرة السلة مثلا.
المشكلة هي أن السرد الشائع يؤكد أن الأفضل فنيًا سيتغلب على الأسوأ، أيًا ما كانت الظروف، ربما يأتي ذلك من منطلق عدم الرغبة في الخضوع للمجهول، حتى وإن كان تأثير ذلك المجهول حقيقيًا، بل أكثر تأثيرًا من بقية العوامل في بعض الأحيان.
في دراسة خرجت عام 2017، استنتج الباحثان ليونيل بيچ ورومان جاريوت، بأنه إذا اعتبرنا تسجيل الأهداف نجاحًا -على نطاق محدود- فالشعرة الفاصلة ما بين النجاح والفشل في هذه الحالة رفيعة جدًا.
فحسب بحثهما، الذي اقتصر على دراسة ما يقارب الـ13 ألف تسديدة اصطدمت بالقائم أو العارضة، وتم تسديدها من مكان واحد تقريبًا، فـ10676 منها ارتدت خارج المرمى، أما البقية فقد ارتطمت ثم دخلت المرمى، من هنا نتوصل إلى الحقيقة، بأنه لا توجد فروقات فنية من حيث الجودة، لكنه الحظ وحده الذي حوّل مسار الكرة، بالتالي ربما يتحول معه مسار المباراة بأكملها، سواء بالفوز أو الهزيمة.
توابع الحظ ليست في تحقيق الهدف وحسب، فبنفس الدراسة، توصل فريق البحث إلى أن من تصطدم كرته بالعارضة ثم تدخل الشباك يحصل على تقييم أعلى من قبل الصحفيين، وتقدير أكبر من قبل جمهوره ومدربه، على عكس اللاعب الآخر، الذي ربما فصلته ميليمترات عن نفس الهدف، بالتالي وبما أن الهدف لم يتحقق، ينال تقديرًا أقل، وربما يتهم أحيانًا بأنه مقصر.
لأن الأوفر حظًا يربح
يخبرنا نسيم نيكولاس طالب، بأننا نرتكب ما يعرف بمغالطة السرد، حين نبصم على أن تحقيق الأندية الأقل جودةً للفوز قد أتى بفضل التخطيط المثالي والروح العالية، لأن حسب الشائع، الحظ لا يأتي للأغبياء.
إلا أن الحقيقة هي أننا حين نفترض ذلك، نكون قد تعرضنا لما يعرف بانحياز الإدراك المتأخر، لأننا نحاول إيجاد مبرر لفوز من لا يستحق الفوز وفقًا للمعطيات الأولية مع تأثرنا الانفعالي بالنتيجة التي أمامنا، لهذا نتناسى عمدًا أن أي عملية نجاح هي عبارة عن عدد من الخطوات المتشابكة والمتصلة ببعضها البعض، التي لا يمكن أن يتم إنتاجها إذا سقط أحد تلك العوامل من المعادلة، وللمفاجأة أحد تلك العوامل هو الحظ.
أخيرًا يمكننا أن نقتبس من أحد تصريحات النرويجي أولي جانر سولشاير ما يجمع كل تلك التعقيدات بسلة واحدة، حين أخبر أحد الصحفيين عشية فوز مانشيستر يونايتد على وولفرهامبتون بكرة طائشة اصطدمت بأحد المدافعين قبل أن تسكُن المرمى، بأن الفريق بالفعل قد فاز بالحظ، لكن كل العناصر بدايةً منه ووصولا إلى أصغر لاعب قد قدموا كل ما في وسعهم، كي يفتح لهم الحظ بابًا، وقد حدث، لكنه من الممكن أن يفعل ذلك بالمرة المقبلة.
لهذا ما يمكن لأي فريق أن يفعله عبر التدريبات وإرساء المبادئ والأفكار التكتيكية هو أن يقلل هامش الفارق ما بينه وبين منافسه إن وجد، كما قد يساعده ذلك على تقليل نسبة التعرُّض للأحداث العشوائية داخل المباراة، لأنه حقيقة لا يمكن أن يقصي الحظ من المعادلة، كما أننا غالبًا لن نتوقف عن إنكار ذلك.